اقتصاد السماء .. لماذا تتسارع الدول للوصول إلى الفضاء؟

اقتصاد السماء .. لماذا تتسارع الدول للوصول إلى الفضاء؟
اقتصاد السماء .. لماذا تتسارع الدول للوصول إلى الفضاء؟

لم يخمد برد موسكو القارس نيران قلبها، طوال ليلة 12 نيسان (أبريل) 1961 لم تفعل وفاليا سوى سؤال زوجها عبر سماعة الهاتف بشفتين مرتجفتين "لماذا أنت"؟ ولم يجد الرجل المرح بطبعه إجابة بعينها، هل يخبرها أن طوله البالغ 155 سنتيمترا مثاليا لإيجاد مكان في الجزء الداخلي الضيق من المركبة الفضائية، أم لأنه أثبت كفاءة في التدريبات، وبالتأكيد هي تعرف شغفه بأسرار السماء منذ أن كان يتركها لأسابيع لمتابعة عمله كطيار مقاتل في قاعدة للقوات الجوية السوفياتية في القطب الشمالي.
تحلت وفاليا بالشجاعة في الصباح وأخبرت زوجها يوري جاجارين أن عليه الإقدام على ما اختير له، ولا يقلق سيجد ابنته جالوتشكا المولودة قبل أشهر قليلة على ما يرام في انتظار عودته، بعدها بساعات كان العالم كله يتحدث عن أول رحلة فضاء في تاريخ هذا الكوكب بقيادة روسيا -الاتحاد السوفياتي حينها- وسيكون يوري جاجازين هو أول رائد فضاء تعرفه البشرية ليتصدر عناوين كل صحف ووكالات أنباء العالم.
لكن ما لا تعرفه وفاليا إنه بعد تلك اللحظة، وخلال ستة عقود فقط سيصل حجم الأجسام التي سيطلقها البشر للغلاف الخارجي نحو 11 ألف جسم حتى 2022 بحسب وكالة ناسا الفضائية، وهي أجسام تنوعت بين أقمار اصطناعية ومركبات فضائية مأهولة وغير مأهولة، إضافة إلى أدوات اتصال ومعدات رحلات فضائية، ورغم أن البداية كانت روسية لكن الهيمنة أضحت أمريكية، إذ تملك أمريكا أكثر من 50 في المائة من تلك الأجسام بعدد 5500 جسم فضائي، تليها روسيا بنصيب 3600 جسم وبريطانيا بـ515 جسما فضائيا.
بالتأكيد تلك الطفرة لم تحدث بين ليلة وضحاها، فبعد سقوط جدار برلين في 1989، وإسدال الستار على الحرب الباردة، لم تتخل أمريكا عن سباق الفضاء، إذ أدركت أنه ساحة الصراع العالمي الجديد، وبالفعل في 1990 كانت اليابان تستعد إلى أول رحلة فضائية في تاريخها، أما الصين فتأخرت قليلا إذ أطلقت أولى رحلاتها في 2003 بقيادة الطيار المقاتل يانج ليوي الذي أضحى أول صيني يصل إلى سطح القمر.
تشير الأرقام إلى حقيقتين في سباق الفضاء، إنه قبل 2022 كانت جميع المبادرات رسمية، أي تقوم بها الحكومات والجهات الرسمية داخل الدول، والحقيقة الثانية أن ذلك لم يكن سهلا فلم يصل إلى الفضاء سوى 11 دولة فقط رغم أن هناك أكثر من 86 دولة تسعى إلى وضع نفسها على الخريطة العالمية الفضائية، لكن بدخول القطاع الخاص لهذا المجال والدراسات التي كشفت الفوائد المتوقعة، اشتد السباق للدرجة التي جعلت هناك 178 مهمة فضائية في 2022 فقط، منها 90 مهمة أجراها القطاع الخاص الذي تتصدره شركة سبيس إكس المملوكة للملياردير الأمريكي إيلون ماسك.
أمام كل دولار يتم استثماره هناك عشرة دولارات متوقعة كعوائد، جملة جوزيف أشباخر المدير العام لوكالة الفضاء الأوروبية، تفسر سر هرولة القطاع الخاص إلى ما بات يعرف بـ"اقتصاد الفضاء"، أما كيف يتم ذلك، فيوضح أشباخر أن أغلبية النشاط الفضائي حاليا يتركز حول الاتصالات والإنترنت والتلفزيون والمراقبة والدفاع وتتبع الصواريخ، وكمثال بسيط لهذا الاستثمار، يكفي القول إن إطلاق قمر اصطناعي واحد كان يكلف في الماضي 200 مليون دولار، وبات الآن بفضل التطور يكلف 60 مليون دولار فقط.
اقتصاد الفضاء الذي تخطى 500 مليار دولار، لم يتوقف فقط عند حد التطور التكنولوجي وخفض تكاليفه بل هناك "الهيليوم 3" وهو عنصر كيميائي مهم يقدر الموجود منه على سطح القمر بمليون طن، ويبلغ سعره مليارات الدولارات، وهو ما يسعى إليه إيلون ماسك، إضافة إلى معادن نادرة أخرى تجعل الفضاء محركا للنمو الاقتصادي العالمي خلال الأعوام المقبلة، وهو ما يدلل عليه زيادة إنفاق الدول على هذا الاستثمار مثل الصين التي رفعت إنفاقها 36 في المائة عن العام الماضي، وكذلك الهند بنسبة 18 في المائة، فضلا عن القطاع الخاص الذي يستعد بكل ما يملك.
عربيا، كانت الإمارات حاضرة بقوة في هذا السباق من خلال "مسبار الأمل" الذي أطلقته في 2019 بقيادة هزاع المنصوري، ثاني رائد فضاء عربي يسافر إلى محطة الفضاء الدولية، وفي التاسع شباط (فبراير) 2021 أعلنت الإمارات نجاح وضع مسبار الأمل في مدار كوكب المريخ بعد رحلة استغرقت سبعة أشهر، لتصبح بذلك أول دولة عربية تصل إلى الكوكب الأحمر.
وإذا كان المنصوري، ثاني رائد فضاء عربي، فالأول كان سعوديا وهو الأمير سلطان بن سلمان، الذي شارك في رحلة ديسكفري الشهيرة 1986، وأصبح بذلك أول عربي يذهب إلى الفضاء ويفتح الطريق أمام الآخرين، وبعد تلك اللحظة استكملت المملكة الريادة بتأسيس الهيئة السعودية للفضاء في 2018 والتي اعتمدتها فورا الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي كممثل رسمي للسعودية، إضافة إلى برامج لابتعاث الفضاء ومشاركة في أحدث الأبحاث العلمية مع المنظمات ومراكز الأبحاث العالمية.
وأخيرا، كان السعوديون على موعد مع حدث ضخم منذ أيام، بإطلاق أول رحلة سعودية إلى الفضاء، من خلال صاروخ "فالكون 9" ومن إنتاج شركة "أكسيوم سبيس"، وتستهدف الرحلة بحسب وكالة واس، إجراء 14 تجربة بحثية علمية في الجاذبية الصغرى، وإذا كان السؤال الآن، هل تتمكن المملكة من حجز مقعد لها بين الكبار في هذا الاستثمار المتوقع أن يصبح الأشرس خلال الأعوام المقبلة، فالأكيد أن جميع العرب من شوارع الحسين في القاهرة، مرورا بغابات الشوف في لبنان وميادين الأردن والعراق ووصولا إلى تونس والجزائر والمغرب، في انتظار عودة الرائدين السعوديين علي القرني وريانة برناوي سالمين إلى أرض بلادهما، والأخيرة سيكون لها سلام خاص لكونها أول امرأة عربية تصعد إلى الفضاء واضعة بذرة لمستقبل بلادها في السماء كما تحصد المملكة الآن ثمار الفوز على الأرض، ولا سيما بعد مقولة ولي العهد، طموحنا عنان السماء

الأكثر قراءة