الذكاء الاصطناعي .. الجانب الآخر لأخطر وحش يهدد البشرية

الذكاء الاصطناعي .. الجانب الآخر لأخطر وحش يهدد البشرية

لم يكن في برنستون البالغة مساحتها سبعة كيلومترات، ويسكنها أقل من ألف شخص سوى الفراغ المحيط بها من كل جانب، لذلك بدت له كئيبة تماما كالعاصمة لندن التي ولد فيها، لكن الشاب آلان تورنج حينها، انتصر على ملل جامعة برنستون التي جاءها من إنجلترا للدراسة، بضجيج عقله الذي ظل يردد سؤالا واحدا ليل نهار، كيف يمكن اختراع آلة تحاكي ما يفعله الإنسان وتفعل بعض أعماله؟
لم تكن الإجابة عند تورنج سهلة، رغم حصوله على درجة الدكتوراه في الرياضيات 1938، وعمله في مركز فك الشفرات البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية حتى استطاع فك الشفرات الألمانية، لكنه بعد مئات الأبحاث تمكن من وضع أسس لما سيعرف لاحقا بـ"الذكاء الاصطناعي"، الذي يعد تورنج الأب الروحي له، وسيواجه العالم بعد أكثر من سبعة عقود، هذا الوحش الذي صار يهدد البشرية نفسها.
بحسب الأمم المتحدة، لم يظهر مصطلح الذكاء الاصطناعي رسميا إلا في 1956، في مؤتمر لجامعة دارتموث الأمريكية، ناقش فيه فكرة تورنج التي انتشرت حينها وصارت محل اهتمام العلماء والباحثين، ومنذ ذلك الوقت حتى 2020 كان عدد الأبحاث المنشورة حول "تكنولوجيا العصر"، مليون ونصف بحث، أما طلبات براءات الاختراع المتعلقة بالذكاء الاصطناعي فوصلت إلى 340 ألف طلب براءة اختراع حتى 2022، وهي أرقام دالة أن الإنسان خلال أكثر من نصف قرن كان دائم البحث والتطوير لمن يحاكيه ويقوم بما يستطيع هو فعله.
لكن تلك الأعوام لم تكن على وتيرة واحدة، ذلك ما يخبرنا به النظر في تاريخ تطور الذكاء الاصطناعي الذي شهد فترة نشاط في حقبتي الخمسينيات والستينيات من القرن الـ20، إذ استطاع عالم الحاسوب، جون مكارثي، تطوير أول لغة برمجة للذكاء الاصطناعي، كما تم تأسيس مختبرات أبحاث ذكاء اصطناعي في عديد من الجامعات والمؤسسات البحثية مثل معاهد ماساتشوستس وكارنيجي وستانفورد، وتكللت الجهود باختراع جهاز الإدراك البصري الذي هو عبارة عن بنية شبكية اصطناعية تمت تغذيتها لتقليد سلوك العقل البشري، ورغم عيوب الجهاز التي ظهرت لاحقا، لكنه أصبح محطة مهمة لأنه أظهر خوارزميات التعليم الآلي لمحاكاة البشر.
بالتوازي مع كل نجاح يحدث، كانت التوقعات تزداد والرهانات تكبر، حتى أصيب العالم بخيبة أمل في بداية سبعينيات القرن الـ20، لأن كثيرا من المشاريع لم تؤد المطلوب منها، وبالتالي أدى عدم التقدم إلى خفض التمويل واضطرار عدد من العلماء إلى التخلي عن مشاريعهم بل ومغادرة المجال تماما، وسميت تلك الفترة بـ"شتاء الذكاء الاصطناعي"، وامتدت من 1974 حتى 1993.
الشتاء الذي طال، أعقبه ربيع محمل برياح شديدة في مجال الذكاء الاصطناعي، حين تم تطوير تقنياته وتصميم أنظمة تقليد لقدرات البشر في مهام متخصصة مثل الطب والهندسة، وكانت التجارب تتم من خلال الألعاب الإلكترونية، وتطبيقات الهواتف، وكلما نجح في مهمة أضيفت إليه مهام أخرى، وأسهم في ذلك دخول شركات الهواتف العالمية في السباق، فمن أجل تطوير هواتفها استخدمت الذكاء الاصطناعي وأسست وحدات متخصصة بميزانيات ضخمة، لتقدم في النهاية منتجا يحاكي الإنسان ويفعل ما يريده منه دون طلب، من خلال البرمجة، وتصدر القائمة شركات أبل ومايكروسوفت ولاحقا جوجل.
لكن كل ذلك، كان يمكن السيطرة عليه حتى 2013، حين حدث ما يشبه في مصطلح مشجعي كرة القدم بالـ"ريمونتادا" للباحثين الذين زادت أبحاثهم لدرجة جعلت 40 في المائة من براءات اختراع هذا العام حول تقنيات الذكاء الاصطناعي، ولم يكن غريبا أن يبني على تلك الدراسات تأسيس شركات ناشئة تمكنت من جمع 5.5 مليار دولار وفقا لبيانات "كرانش بيس" ثم ارتفع التمويل إلى 600 في المائة خلال ثلاثة أعوام تالية، لينطلق المارد من "قمقه".
قيادة سيارات، فك شفرات اللغة، المشاركة في العمليات الجراحية، إعداد رسومات هندسية، تفكيك المعادلات الرياضية وإعدادها من جديد، اختراق أجهزة، ووصولا إلى القيام بالمهام الدبلوماسية وإعداد السلطات الفاخرة في المطاعم ومحاولات لإنتاج نصوص إبداعية، بالطبع تلك ليست أكثر من مجرد أمثلة، فمهام الذكاء الاصطناعي باتت تحتاج إلى صفحات جريدة ورقية كاملة، إذ تكفي فقط برمجة تلك الأجهزة لتقوم بالعمل المطلوب، ما دفع عدة دول إلى دق ناقوس الخطر، فبهذا المسار باتت البشرية مهددة بفقدان 80 في المائة من وظائفها خلال عقدين من الزمان، وبدلا من أن يخترع الإنسان آلة تحاكيه وتخفف عنه الأعباء، بات أمام آلة ستحيله إلى التقاعد!
بالتأكيد هذا ليس الخطر الوحيد، فأن تكون أكبر خمس شركات تستثمر في الذكاء الاصطناعي أمريكية، أمرا أثار قلق دول أخرى مثل الصين وروسيا، وقد وصل حجم استثمارات الشركات الأمريكية حتى الآن إلى 12 مليار دولار، تتصدرها مايكروسوفت وأبل وتسلا، فضلا عن شركة "أوبن آيه آي" التي أنتجت روبوت "تشات جي بي" بالتعاون مع إيلون ماسك، والأخير وصف الروبوت الذي يملكه بأنه صاحب إمكانات مذهلة لدرجة تخيف، معترفا أن ما يحدث قد يهدد الحضارة البشرية، لذلك لم يكن غريبا أن تحظر دول مثل إيطاليا هذا الروبوت، فاتحة الطريق أمام دول أخرى تدرس القرار نفسه، بسبب قدرة التقنية الجديدة على جمع ملايين المعلومات وتحليلها في أكبر عمل استخباراتي يتم في وقت قياسي.
لكن دولا أخرى لم تكتف بالمنع، بل سعت إلى استخدام السلاح نفسه ليكون ضمن أسلحتها في الحرب الشرسة، مثل الصين التي أعلنت في كانون الأول (ديسمبر) الماضي افتتاح مصنع للروبوتات بميزانية وصلت إلى 150 مليون دولار، وهو ما تسير على خطاه دول مثل روسيا وفرنسا وألمانيا، إذ تريد كل دولة "روبوتا" خاص بها على غرار تشات جي بي تي، فيما عد الكاتب البريطاني أنتوني كاثبترسون، أن خطر الذكاء الاصطناعي يفوق الحروب النووية، وشاركه القلق الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي أكد مخاطره المحتملة مع حكومات أخرى.
هذا التطاحن، دفع بريطانيا أخيرا إلى إعلان تنظيم أول قمة عالمية للذكاء الاصطناعي هذا العام، في محاولة للحد من مخاطره، لكن السؤال هل تستطيع ترويض المارد المتوقع أن تصل حجم استثماراته إلى 232 مليار دولار حتى 2025ـ، أم ستفشل ليتنحى الإنسان جانبا ويترك الروبوتات تخوض حروبها الشرسة التي ستقضي على البشرية، في تطبيق صريح لمقولة، "الدبة التي قتلت صاحبها"؟

الأكثر قراءة