مخاوف اندثار العولمة تدفع واشنطن وبكين إلى التقارب

مخاوف اندثار العولمة تدفع واشنطن وبكين إلى التقارب
مخاوف اندثار العولمة تدفع واشنطن وبكين إلى التقارب

تعيش التجارة العالمية واقعا حرجا جراء التوترات السياسية الناجمة عن المحاولات الأمريكية لفرض مزيد من سطوتها على العالم، فيما تترسخ هذه التوترات ببحث الصين عن مكانة متميزة لها تجبر واشنطن على القبول بها، فيما تحشد الدول الأوروبية جهودها للحد من آثار الأزمات الاقتصادية والتجارية الناتجة عن تبعات الحرب الروسية - الأوكرانية بشكل مباشر وغير مباشر، إضافة إلى ما تسببت فيه جائحة كوفيد - 19 من أضرار عملت على تأزم الاقتصاد العالمي، من خلال ارتفاع التضخم وارتفاع الأسعار وزيادة حجم الديون العالمية.
أدت هذه الأحداث مجتمعة إلى ضربات متلاحقة للعولمة بداية من الأزمة المالية العالمية عام 2008 مرورا بصعود الشعبوية في الولايات المتحدة وأوروبا وانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي عام 2016، وانتهاء بجائحة كورونا، والصراع الروسي - الأوكراني، حيث دفعت هذه الأحداث دولا عدة إلى التفكير بجدية في عالم ما بعد العولمة، التي قد تندثر جراء الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، إلا أن طبيعة الأحداث الجارية على الأرض تؤكد استمراريتها مع حدوث تطورات في تكوينها الجوهري، حيث باتت أكثر اعتمادا على الروابط الإقليمية وتشكيل التكتلات الاقتصادية في القطاعات العامة والاستراتيجية، مع عديد من الشواهد التي تؤكد استمرارية الترابط الاقتصادي العالمي.
يشكل استمرار تدفق الاستثمار والتجارة العابرة للحدود رغم اضطراب سلاسل الإمداد والتوريد في ضوء الأزمات المختلفة للعولمة مرونة في شبكات الإنتاج والتجارة العالمية، خاصة أن الأخيرة لا تقتصر على تجارة السلع فقط بل تشمل أيضا التجارة في الخدمات، بتفوق الأولى على الثانية من حيث القيمة، إلا أن نسبة التجارة في الخدمات كقيمة مضافة للناتج الاقتصادي العالمي استمرت في الارتفاع.
كما أن التطورات التكنولوجية ودعم التجارة العابرة للحدود ساعدا بتسريع وتيرة التطورات التكنولوجية على خفض تكاليف النقل والاتصالات، وبالتالي سهولة نمو التجارة منذ التسعينيات حتى العقد الأول من القرن الـ21، حيث تشير المقاييس المتعددة للعولمة إلى تدفق الاستثمار والأشخاص والبيانات عبر الحدود.
أدى التحول من الأطر متعددة الأطراف إلى الإقليمية إلى التحرك لتعميق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة عبر آسيا والمحيط الهادئ، الأمر الذي يدعم النمو الاقتصادي الشامل والمستدام، خاصة أن تلك المنطقة تعد الأسرع نموا في العالم، كما أن هناك مساعي لتعزيز التكامل الإقليمي في إفريقيا عبر بدء إنفاذ منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، ما يفتح المجال أمام مزيد من التجارة والاستثمار من قبل أوروبا والولايات المتحدة خاصة في مجال الطاقة الخضراء والتقنيات الرقمية.
ومن الشواهد، التنافس الأوروبي المرن إزاء الصين، فمن أبرز سمات التجارة والاستثمار الدوليين على مدار الـ20 عاما الماضية، استمرار الصعود الاقتصادي للصين وتكاملها مع الاقتصاد العالمي، التي تفوقت في كثير من الأحيان على الولايات المتحدة، بوصفها الشريك التجاري الأكثر أهمية للاتحاد الأوروبي عام 2020، وهو العامل الذي يعزز استمرارية تفاعل أوروبا معها، رغم الانحياز السياسي الأوروبي للولايات المتحدة في صراعها مع الصين، إلا أنها حافظت على استمرار التجارة مع الصين في مسعى للتوازن بين توجهاتها السياسية والاقتصادية.
يوضح هذا النهج الأوربي نوعا من التنافس العالمي المرن إزاء الصين، رغم المخاوف بشأن تكتيكات بكين للإكراه العسكري والاقتصادي، ومثل هذا النهج سواء للولايات المتحدة أو أوروبا أو الشركاء الآخرين هو أفضل طريقة للانخراط مع الصين في التجارة العالمية، رغم الاختلاف الجيوسياسي معها، ذلك أن مستقبل نظام التجارة العالمي لا يتعلق بالتقارب بل بالتعايش.
إلى ذلك، شهد شهر نيسان (أبريل) الماضي ثلاثة خطابات من قبل كبار الساسة في إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، شكلت ضمنيا إعلان استراتيجية الإدارة الأمريكية الاقتصادية تجاه الصين، وتمثلت الرسالة الأهم في الاستراتيجية في رفض "الانفصال" الاقتصادي عن الصين لمصلحة "التنويع وتقليل المخاطر".
ويظهر هذا التوجه رغبة أمريكية في الانخراط الدبلوماسي والاقتصادي ضمن بوتقة التنافس المسؤول، الذي يأتي ضمن مبدأ الأقل عدائية وأكثر انفتاحا، إذ تشير هذه التصريحات إلى التحول بعيدا عن السيناريوهات الصدامية باتجاه استراتيجية أكثر تشاركية نحو الصين، الهدف منها التركيز على المجالات التي تتطلب التعاون.
وأكدت التصريحات الأمريكية الأخيرة على محاور متشابهة أن الانفصال عن الصين بكل ما يتضمنه من انعكاسات على تراجع العولمة ليس عمليا، حيث وصف كل من كاثرين تاي ممثلة التجارة الأمريكية، وجانيت يلين وزيرة الخزانة، وجاك سوليفن مستشار الأمن القومي، كما عدت الوزيرة الأمريكية الانفصال عن الصين قد يكون "كارثيا".
رغبة واشنطن في التقرب نحو الصين تواجه تحديات عدة، أبرزها التوتر الحاصل في تايوان جراء الدعم الأمريكي لها، إضافة إلى الاتهامات الأمريكية للصين ببناء إمبراطورية تجارية في بحر الصين الجنوبي، وكذلك المخاوف الأمريكية من شركة هواوي الصينية ومطامعها في السيطرة على تكنولوجيا الجيل الخامس.
الحاجة الملحة لإعادة ضبط العلاقة السياسية بين البلدين، لقيت رفضا من أعلى المستويات الصينية بتجاهل الرئيس الصيني شي جي بينج، الرد على محاولات اتصال الرئيس الأمريكي، حيث بلغ التوتر ذروته في العلاقات بين البلدين بعد زيارة نانسي بيلوسي رئيس مجلس النواب الأمريكي السابقة تايوان، برفقة قوة عسكرية أمريكية.
رغم صد الرئيس الصيني إلا أن الهدف من الاستراتيجية الاقتصادية الأمريكية تقليص المخاطر بدلا من "القطيعة" عن الصين، بتمهيد الطريق لمحادثات دبلوماسية مكثفة في فيينا بين سوليفن ونظيره الصيني، حيث عقد المسؤولان في أيار (مايو) الماضي اجتماعات امتدت إلى نحو 12 ساعة، وصف خلالها الطرفان اللقاء بـ"الصريح والبناء".
جهود إدارة بايدن نحو الانخراط المشروط بين البلدين، ومراعاة مخاوف الولايات المتحدة الأمنية والعسكرية، والالتزام بنظام للتجارة العادلة، في حال طبقت الأقوال الأمريكية وتحولت إلى أفعال يؤكد استمرارية العولمة من ناحية الشكل مع اختلاف المضمون، حيث إن الضرورات الاقتصادية للنظام العالمي بأسره، تدفع الجميع إلى التكاتف لتجاوز الأزمات الاقتصادية.

الأكثر قراءة