الأمم المتحدة .. أي أفق لإصلاح بمنطق القوة؟
تجدد الحديث عن الحاجة إلى إصلاح الأمم المتحدة، وعلى لسان الولايات المتحدة هذه المرة، فإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تعد خطة لإصلاح مجلس الأمن، بعد العجز البين للهيئة الأممية، أمام الفيتو الروسي ضد أي قرار لمجلس الأمن، يطالب بسحب القوات الروسية. كل ذلك سعيا إلى إنقاذ الهيئة الدولية شبه المشلولة حاليا من موت محتوم، فالعالم سائر، يوما بعد آخر، نحو مزيد من الانشطار والتنافس والجهوية.
أزمة تلو الأخرى يزداد يقين العالم بأن مجلس الأمن لم يعد قادرا على الوفاء بالتفويض الممنوح له، وأن الحاجة ماسة إلى مراجعة جذرية للقواعد التي فرضها سياق ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي منحت العضوية الدائمة في مجلس الأمن، وما يستتبعها من سلطة للفيتو "حق النقض"، لكل من: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين والاتحاد السوفياتي بناء على إفراز موازين القوى العسكرية.
تحاول الولايات المتحدة إذن إصلاح مجلس الأمن، بتبني مطالب كانت دوما من أشد المعارضين لها، منذ ستينيات القرن الماضي. وذلك بعد ارتداد القواعد التي كانت مؤطرة لنظام الدولي، طيلة العقود الماضية، ضد مصالحها في أكثر من رقعة جغرافية في العالم. خاصة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، حيث واجهت واشنطن ومعها المعسكر الغربي برمته، ولأول مرة، الأسلحة التي طالما استخدموها، في مجلس الأمن، ضد الآخرين.
حقيقة عجلت بدعوات الإصلاح، على أكثر من لسان، بدءا من الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي خاطب المشاركين في آخر اجتماع للجمعية العامة، قائلا، "حان الوقت لأن تصبح المؤسسة أكثر شمولا"، مضيفا بأن الحاجة ماسة إلى ضرورة "تحديد الأوضاع النادرة وغير العادية لاستخدام حق الفيتو". وكان ممثل فرنسا في الأمم المتحدة، نيكولاس دي ريفيير أكثر دبلوماسية في إبداء موقف بلاده، "نحن بحاجة إلى مؤسسة قوية عالميا، وتعكس عالم اليوم وليس عالم الأمس". عكست سفيرة بريطانيا لدى الأمم المتحدة، باربرا وودورد التي لم تخف الدواعي الحقيقية وراء الإصلاح، حين قالت، "علينا الرد على استخدام روسيا الفاضح للفيتو من أجل حماية نفسها، وكذا تحديث العضوية في المجلس، لكي تعطي مدى واسعا ومتنوعا لصوت الدول".
تحاول الإدارة الأمريكية بقيادة ليندا توماس جرينفيلد، سفيرة واشنطن لدى الأمم المتحدة، من خلال سلسلة مشاورات مع عدد من الدبلوماسيين، تأسيس نوع من الإجماع العالمي بشأن خطة معقولة وذات مصداقية، تستطيع تحقيق الإصلاح المنشود. وفي كواليس المبادرة الأمريكية زيادة ستة مقاعد دائمة في المجلس، دون منح الأعضاء الجدد حق النقض، ما يكشف تفكيرا داخل الإدارة الأمريكية، وتصميما على بث الروح في هذه المؤسسة بإعادة البريق، بخطوة الإصلاح الرامية إلى محاربة الإحباط السائد في صفوف أعضاء المجلس بعد الحرب الأوكرانية.
يتخوف مراقبون أن تلقى المحاولة الأمريكية للإصلاح مصير المشروع الشامل للإصلاح والمتكامل الذي أعده الأمين العام الراحل كوفي أنان، في الذكرى الـ60 لإنشاء الأمم المتحدة، والذي تعثر بسبب تصلب وعناد الموقف الأمريكي. خاصة أن المبادرة مجرد رد فعل دفاعا من دول المعسكر الغربي على الحلف المضاد "الصين وروسيا"، وليست نتاج قناعة جماعية بضرورة الإصلاح.
تتعدد العقبات التي تواجه مبادرة الإصلاح بدءا من النصاب القانوني لإقراره، فتوسيع مجلس الأمن يعني تغيير ميثاق الأمم المتحدة، ما يعني وفق المادة الـ108 من ميثاق الأمم المتحدة، ضرورة الحصول على موافقة 128 دولة من أصل 193، فضلا عن ضرورة مصادقة الدول دائمة العضوية. وليس انتهاء بعملية طويلة ومعقدة، تتلو إرسال مقترحات الإصلاح إلى مجلس الشيوخ.
يبقى تدبير التحالفات العقبة الأكبر أمام رعاة الإصلاح، فعلى أي أساس سيتم اختيار الدول المرشحة للعضوية الدائمة في مجلس الأمن. فمن جهته، لم يخف الرئيس الأمريكي جو بايدن دعمه منح دول إفريقية ودول أمريكا اللاتينية مقاعد دائمة. وطالب الاتحاد الإفريقي، ممثلا في الرئيس السنغالي ماكي سال الذي تتولى بلاده رئاسة الاتحاد من على منبر الأمم المتحدة ضرورة "دعم المطلب الإفريقي والمشروع بشأن إصلاح مجلس الأمن"، وطالبت الدول الإفريقية التي تمثل 30 في المائة من أعضاء الأمم المتحدة بمقعدين دائمين وحق النقض، دون أن ترشح دولا بعينها.
وعلى مستوى الدول تدعم واشنطن، بناء على موازين القوى والتموقع في خريطة التحالفات، انضمام اليابان والهند وألمانيا كأعضاء دائمين، فيما تؤيد لندن وباريس ضم كل اليابان والهند وألمانيا والبرازيل ودولة إفريقية واحدة على الأقل. وحتى في غياب حق النقض الفيتو لدى المرشحين للعضوية، فطريق الحصول على مقعد في المجلس لن يكون مفروشا بالورود بالنسبة إلى كثير من الدول.
فأقلية من الدول من تحظى بالإجماع، فعضوية اليابان مثلا ستواجه بمعارضة شديدة من جانب الصين التي تعارض حصول طوكيو على مقعد في نادي الكبار. وما لبث ممثل باكستان، منير أكرم ينقد ما يروج عن مساعي منح جارته الهند مقعدا دائما في المجلس، قائلا، "لا نعتقد أن هذا مبدأ جيد عندما تضع بلدا كعضو دائم في مجلس الأمن لأنه لن يحاسب على سلوكه".
مهما تكن نتائج مساعي الإصلاح، فإنها تثبت أمرين أساسيين: أحدهما، أن الإطار المؤسس للنظام الدولي، ممثلا في الأمم المتحدة، وصل إلى مرحلة العالمية الحقة لأول مرة في تاريخ البشرية. فالدول الأعضاء في المجتمع الدولي كلها تقريبا أعضاء في الأمم المتحدة "193"، بينما العضوية في عصبة الأمم لم تتعد 58 دولة في أوج عطائها.
لذلك تحاول جميع الدول الحفاظ على هذا الكيان رغم أعطابه الجمة، فالصين مثلا ورغم مناكفتها للولايات المتحدة قصد تغيير النظام العالمي الذي تعد الأمم المتحدة أبرز مؤسساته، تبقى ثاني أكبر مساهم مالي فيها، والدولة الوحيدة التي يرأس مواطنوها أكثر من وكالة متخصصة في الأمم المتحدة، فضلا عن مساهمتها العددية في قوات حفظ السلام، فجنودها ضعف ما يملكه باقي الأعضاء الأربعة مجتمعين.
أما الآخر، فيتعلق باستمرار هيمنة منطق القوة في النظام الدولي منذ 24 تشرين الأول (أكتوبر) 1945، بدل منطق العدل والقانون والمساواة والتوازن. التقطت دول عدة هذه الحقيقة، فعمدت إلى السباق نحو التسلح، برفع ميزانيات الدفاع وتطوير الصناعات العسكرية... وما إلى ذلك من السبل الكفيلة بضمان دخولها نادي الدول الوازنة عسكريا، ما يخولها حق المطالبة بنصيبها من النفوذ والسلطة في النظام العالمي.