تحديات الانبعاثات الصينية .. البيئة على حساب التنمية
اتسع نفوذ الصين السياسي والتجاري والعسكري في العقد الأخير، وتجاوزت الولايات المتحدة في كثير من المؤشرات، ومن أبرز المؤشرات التي تحسب لها انتشارها الصناعي المرتبط بالنفوذ التجاري في مختلف أنحاء العالم، حيث غطت المنتجات الصينية خريطة العالم الحديث، ووصلت صناعاتها إلى أقصى بقاع الأرض، إلا أن الوجه الآخر لهذه الصناعة له ضريبة كبيرة على مستقبل الكوكب بيئيا، حيث سجلت انبعاثات الصين من الغازات المسببة للاحتباس الحراري 12.7 مليار طن من غازات الاحتباس الحراري في 2019.، أي ما يعادل نحو 27 في المائة من إجمالي الانبعاثات العالمية.
أخذت نسب الانبعاثات الصينية بالتزايد، ولم تكبح جماحها قيود جائحة كوفيد - 19، وبلغت انبعاثات الصين من ثاني أكسيد الكربون 11 مليار طن متري، وهو ما يعادل 30 في المائة من إجمالي الانبعاثات العالمية في ذلك العام، إلا أن الدور الصيني تجاه العالم والبيئة، اتخذ موقفا جديا بضرورة تخفيف الانبعاثات، ومواجهة التغير المناخي بكل مسؤولية وحزم ما جعلها إحدى الدول الرائدة في هذا المجال.
على صعيد التحديات، أدت تبعات التلوث المرتبطة بالانبعاثات إلى وفاة 60 ألف شخص سنويا في الصين بسبب تلوث المياه، فيما يتسبب تلوث الهواء في وفاة 1.1 مليون شخص سنويا، إلى جانب انتشار الأمراض الصدرية والتنفسية والأوبئة، ومرجع ذلك كله إلى مشكلات هيكلية تتعلق بنقاء الهواء، ونظافة المياه وتوافرها، والتصحر، وتلوث التربة، والتلوث الناتج عن النفايات النووية، حيث يتسبب التحدي البيئي في خسائر اقتصادية تقدر بمليارات الدولارات سنويا، ما وضعها في بعض التقديرات عند حد 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
كما تعاني الصين ظواهر بيئية خطرة أهمها ارتفاع مستوى سطح البحر، والظواهر الجوية الشديدة، وذوبان الأنهار الجليدية، والفيضانات، وحرائق الغابات، والجفاف، وذلك جراء النسبة المرتفعة من الانبعاثات والتي تؤدي في نهاية المطاف إلى التغير المناخي التدريجي في معدلات قد تكون أكثر سوءا.
تجاوزت المخاطر حدود التبعات البيئية والصحية والاقتصادية والاجتماعية، وامتدت إلى تبعات المشهد السياسي الصيني، حيث عكست زيادة عدد وكثافة التظاهرات الشعبية والمناشدات على مدار العقد الماضي وعيا شعبيا متناميا في الصين بمخاطر التغير المناخي.
الحلول على الطريقة الصينية، كانت بتبني الحكومة مجموعة سياسات متوازية للتكيف مع تبعات تغير المناخ، حيث غطت البنية التحتية والغابات والمراعي والرعاية الصحية والموارد المائية والزراعة والمدن، إضافة إلى إدراجها خططا لتعزيز المرونة البيئية وجعل أنظمتها البيئية والصحية والاقتصادية والاجتماعية الوطنية أكثر قدرة على المقاومة، والتعايش مع، تبعات التغير المناخي في "الاستراتيجية الوطنية للتكيف مع تغير المناخ 2035" التي صدرت 2022.
التسلسل الزمني، يعد 2007 نقطة تحول في إدراك الصين تبعات النمو الاقتصادي السريع وارتباطه بتفاعلات التغير المناخي، وفيه أخذت السياسات الصينية منحنى تدريجيا، يهدف إلى مواجهة تغير المناخ ضمن سياق زمني ضيق نسبيا، لكنه مكثف وفاعل، وانحسر هذا النطاق الزمني، من حيث الجدية وسرعة القرارات والإجراءات، في العقد الماضي تقريبا، ويمكن تقسيم فلسفة مكافحة الصين للتغير المناخي إلى حقبتين متتابعتين، الأولى بين 2007 و2015، والثانية من 2015 حتى الآن.
ركزت السياسات المناخية الصينية في ذلك الوقت على إصلاح قطاع الطاقة على المستوى القومي بين 2007 و2010 بهدف تقليل نسبة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وانقسمت هذه الإصلاحات إلى قسمين: الإصلاح القانوني والمؤسسي، والاستثمار في تطوير التكنولوجيا الفائقة.
كما شهدت الفترة بين 2012 و2015، قفزة صينية في عدد من السياسات والتوجيهات الحكومية المتعلقة بمواجهة التغير المناخي، بالتزامن مع إصدار مجلس الدولة الخطة الخمسية الـ12، وتضمنت خطة لمدى خمسة أعوام للتحكم في انبعاثات الغازات الحرارية، وإنشاء سوق لتداول الكربون، للمرة الأولى، لدعم حركة التجارة القائمة على تقليص انبعاثات الكربون، ورفع التكلفة على الملوثين.
ولم تتوقف جهود الحكومة الصينية عند ذلك الحد، بل وصلت إلى اتخاذ إصلاحات على نظام البيانات والتصنيف المتصل بإحصاءات الطاقة، في سعيها لتوسيع مفاهيم التأثر المناخي، بحيث يصبح أكثر شمولية واستجابة للتوجهات السياسية الجديدة، كما شهدت هذه الفترة تموضع الصين بوصفها قوة عظمى في مجال مكافحة التغير المناخي.
وفي 2014 و2016، عدلت الحكومة "الخطة الوطنية لمواجهة التغير المناخي" لتصبح أكثر تركيزا على بعدي التبادل والتعاون الدوليين اللذين باتا أكثر مركزية في استراتيجيات الصين المناخية، والمتسقين مع التزامات الصين المستجدة بموجب اتفاق كوبنهاجن واتفاقية باريس المناخية.
تبنت الصين في 2015 سياسات أكثر تشعبا وعمقا وشمولية من حيث المناطق الجغرافية في الداخل والمجالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، الرئيسة والفرعية، التي تشملها هذه السياسات، بوضعها خلال الفترة نفسها مستهدفات الحياد الكربوني، التي شملت الوصول إلى ذروة الانبعاثات بحلول 2030، وتحقيق الحياد الكربوني الكامل بحلول 2060.
إلى جانب ذلك، تبنت القيادة الصينية مفاهيم أساسية بنيت عليها سياسة حشد الطاقات الوطنية واستراتيجيات الإنفاق والتكيف، أهمها التحول إلى اقتصاد منخفض الكربون، والتنمية المستدامة، والنمو الاقتصادي عالي الجودة بديلا عن النمو السريع.
وصولا إلى الخطة الخمسية الـ14 (2021 - 2025)، والتي تعد أحد أهم الوثائق وأكثرها شمولا وطموحا فيما يتعلق بمستهدفات مواجهة التغير المناخي، والتي تهدف إلى "بناء محرك تنمية صديق للبيئة" مركزيا في عملية صناعة السياسات الاقتصادية، من خلال دعم الخطة وثيقة "رؤية التنمية الاقتصادية والاجتماعية الوطنية 2035".
كما طرحت الوثيقتان مفهومين أساسيين، "التحول الأخضر الشامل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية" الذي يشير إلى تقديم جودة النمو الاقتصادي على مفهوم سرعة النمو، ومفهوم "المياه الخضراء والجبال الخضراء"، الذي طرحه الرئيس شي جين بينج للمرة الأولى في 2013 ويشير إلى فلسفة تنموية تؤكد الانسجام بين الإنسان والطبيعة، وقيمة الحفاظ على البيئة على حساب النمو الاقتصادي.