البنوك المركزية على مسار العملات الرقمية لا محالة

البنوك المركزية على مسار العملات الرقمية لا محالة

يمكننا الجزم بدرجة عالية من الثقة بوجود ما يشبه الإجماع العالمي بأن العملات الرقمية التي تصدرها البنوك المركزية ستصبح حقيقة واقعة في الأعوام المقبلة، سواء كانت الدول جاهزة لذلك أم لا.
وعلى الرغم من أن القليل منا لا يزال يفهم ما العملات الرقمية، فإن هذا لن يحول دون أن تكون واقعا ملموسا في الاقتصاد العالمي، إذ لا تتمتع أي دولة في العالم وأيا كانت قوتها الاقتصادية بالقدرة على تجاهل صناعة العملات المشفرة التي تبلغ قيمتها في الوقت الحالي تريليون دولار، على الرغم مما تمر به من تراجع.
سواء شئنا أم لم نشأ، فإن دخول البنوك المركزية على مسار إصدار العملات الرقمية يعد تطورا جذريا وسيكون له تأثير كبير ستتغير بمقتضاه قواعد اللعبة المصرفية في العالم، وإذا كان بعض من البنوك المركزية بات له بالفعل عمله رقمية، فإنه بالنسبة لباقي البنوك المركزية يرتبط الأمر بعامل الوقت قبل أن نصبح جميعا أمام تلك الحقيقة.
ربما يكون السؤال الذي سيخطر إلى الذهن لماذا ستصبح العملات الرقمية التي تصدرها البنوك المركزية حقيقة واقعية مع مرور الأيام؟ لكن قد يسبق هذا السؤال سؤال آخر لماذا تهتم البنوك المركزية بإصدار عملتها الرقمية؟
في اللحظة الحالية هناك 114 دولة حول العالم تقيم أو تدرس المكاسب والمغانم وأيضا المخاطر والأضرار الناجمة عن إصدار عملة رقمية، تمثل اقتصادات تلك الدول مجتمعة 95 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ووفقا للخبراء فإن الصين، الهند، نيجيريا، وجزر الباهاما قد قامت بطرح عملات رقمية بالفعل، بينما تستعد دول أخرى مثل اليابان والسويد، لطرح عملتها الرقمية، وبالطبع الولايات المتحدة تدرس إصدار الدولار الرقمي وبإصداره سيشهد العالم ضجة دولية ويعود مجددا للحديث عن عالم العملات المشفرة الذي يمر بحالة من الخفوت والركود حاليا.
مرة أخرى نعود إلى السؤال الرئيس، لماذا تهتم البنوك المركزية بإصدار عملتها الرقمية؟ بعيدا عن نظرية المؤامرة.
هنا يرى البروفيسور ماك كريس الأستاذ السابق للنظم المصرفية في جامعة أكسفورد، أن اهتمام البنوك المركزية بعالم العملات الرقمية ما هو إلا تطبيق حرفي لإحدى نظريات الصراع، فإذا كان لديك خصم ما فإما أن تقاتله وجها لوجه أو أن تعمل على اختراقه من الداخل، والأعوام الماضية - من وجهة نظره - كشفت أن الحكومات والبنوك المركزية لم تفلح في إخراج العملات المشفرة مثل بيتكوين وغيرها من اهتمام الجماهير، فلم يكن أمامها من سبيل غير اختراق عالم العملات المشفرة أو الرقمية وطرح عملات مشابهة لها.
في عام 1694 أصبح بنك إنجلترا أول بنك يصدر بانتظام الأوراق النقدية كوسيلة للدفع، ومنذ ذلك التاريخ والبنوك المركزية في العالم أجمع تحتكر إصدار الأموال، ومع صعود الإنترنت والعملات المشفرة باتت المكانة التاريخية للبنوك المركزية محل تساؤل.
وقال كريس لـ"الاقتصادية" إنه "على مر التاريخ كان المال والمدفوعات يتطوران معا وباستمرار، وهذا أكثر وضوحا في العصر الرقمي، فالآن نحن نسدد المدفوعات المالية بشكل متزايد رقميا، ونتسوق عبر الإنترنت، لهذا يقل اعتمادنا على النقود، وتنتقل النقود تدريجيا من جيوبنا إلى الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية الأخرى، هذه التغيرات لها تأثير عميق على طبيعة النقود ذاتها، ولأن البنوك المركزية هي المسؤول الأول عن النقود، فإن العملات الرقمية للبنوك المركزية باتت ضرورية في عالمنا الرقمي لكي تستطيع البنوك المركزية الحفاظ على الدور المنوط بها، وان يظل التعامل معها يتم على أساس أنها قوة استقرار في قلب نظام المدفوعات ولحماية السيادة النقدية للدولة".
ويعتقد بعض الخبراء أن أحد الأسباب الأخرى التي تدفع البنوك المركزية إلى إصدار عملتها الرقمية يعود إلى الانخفاض السريع في الدفع نقدا بصورة مباشرة، فعلى سبيل المثال انخفض استخدام العملات النقدية في القارة الأوروبية خلال الفترة ما بين 2014 - 2021 بنحو الثلث، وفي النرويج على سبيل المثال انخفض استخدام العملة الوطنية من إجمالي معاملات الدفع بنحو 3 في المائة، ويعني هذا تراجع في قوة البنوك المركزية بحسبانها المصدر الوحيد للقيمة النقدية، مما يتطلب منها الأسرع بإعادة تقييم دورها في النظام النقدي.
وتراجع استخدام النقود ترافق أيضا مع إقبال متزايد من المستهلكين في عديد من الاقتصادات في التداول أو التعامل في الأصول الرقمية، فبعض الإحصاءات تشير إلى أن 10 في المائة من البالغين في بريطانيا يمتلكون أو يحتفظون بأصول مشفرة، كما أعلن البنك المركزي الأوروبي أن ما يصل إلى 10 في المائة من الأسر في ست دول كبيرة في الاتحاد الأوروبي تمتلك أصولا رقمية، وفي الهند واحد من كل خمسة مواطنين يحتفظ بأصول مشفرة، وتبلغ النسبة 20 في المائة في البرازيل و14 في المائة في الولايات المتحدة يمتلكون أصولا رقمية كجزء من محافظهم المالية.
هذا الوضع يدفعنا إلى طرح تساؤل آخر طبيعي ومنطقي، لماذا سيستخدم أي شخص عملة رقمية للبنك المركزي؟ قد تبدو الإجابة أيضا بسيطة.. باختصار لأنها صادرة عن البنك المركزي ومن ثم تتمتع بالثقة في استخدامها.
لكن تلك الإجابة تبدو مبسطة وبسيطة من وجهة نظر بعض الخبراء في المجال المصرفي ومن بينهم مايرز أدم الذي قال لـ"الاقتصادية" إن "الأمر لن يتوقف فقط على الثقة، وإنما على الفوائد والجاذبية التي سيجنيها مستخدمو العملات الرقمية للبنوك المركزية، فبدون تلك الفوائد لا يوجد مبرر للتخلي عن النقد أو بطاقات الائتمان لمصلحة المدفوعات الرقمية".
وأضاف، أن الهدف الرئيس للعملات الرقمية للبنوك المركزية إيجاد أنظمة بديلة لتحسين مرونة الاقتصاد، ومن ثم الاختبار الحقيقي لتلك العملات لن يتركز في مجال المدفوعات وحسب، بل الأهم إلى أي مدى ستستخدم في مجال الاستثمار، وهذا سيمثل الاختبار الحقيقي لمدى نجاح العملات الرقمية للبنوك المركزية".
ولهذا تحديدا يفرق الخبراء بين نوعين من عملات البنوك المركزية الرقمية، النوع الأول المصمم للاستخدام من قبل المؤسسات المالية، والنوع الآخر المستخدم من قبل عامة الناس.
والنوع الأول سيكون طريقة جديدة للبنوك المركزية لتحويل الأموال إلى البنوك التجارية، وبشكل أكثر تحديدا ستقوم فيه البنوك المركزية بإجراء التحويلات المالية بين المؤسسات المالية التي تستغرق في الوقت الراهن أياما في بعض الحالات بشكل أسرع وأكثر أمانا وفاعلية.
النوع الثاني من العملة الرقمية للبنك المركزي سيكون نسخة رقمية من النقود الورقية المتاحة حاليا لعامة الناس من خلال الحسابات التي يحتفظ بها البنك المركزي أو البنوك التجارية. لكن هل يختلف ذلك عن النقد الذي نتعامل به حاليا؟
من جانبه، قال لـ"الاقتصادية" الدكتور إن.دي. اكيرمان أستاذ النقود والبنوك في جامعة لندن، إن "من منظور الشخص العادي أو الأعمال التجارية لا يختلف هذا النوع من العملات الرقمية للبنوك المركزية عن النقود الإلكترونية في الحسابات المصرفية في عالم اليوم، لكن ما يجعل الأمر مميزا ومختلفا بشكل جذري أن البنك المركزي سيمكنه الوصول مباشرة إلى الحسابات المصرفية للعملاء، وهذا يمثل خروجا عن الطريقة التي يتم بها إنشاء الأموال وتوزيعها في عالم اليوم، ففي الوقت الحالي لا يوجد تواصل مباشر بين البنك المركزي والمواطنين، والعلاقة بينهما تتم عبر البنوك التجارية، لكن مع العملات الرقمية للبنوك المركزية سيكون التواصل مباشرا بين البنك المركزي والمواطن".
وهذا المنطق في التفكير يبدو في الحقيقة مثيرا للاهتمام، فجوهر فكرة العملات الرقمية كان التخلص من سيطرة البنوك المركزية على إصدار الأموال وتوزيعها، والآن وبفضل العملات الرقمية للبنوك المركزية باتت البنوك المركزية أكثر قوة وسيطرة بإزاحة البنوك التجارية جانبا والتعامل المباشر مع المواطنين.
لكن ما فائدة التعامل المباشر بين البنك المركزي والمواطنين؟ ربما تكون الفائدة الأبرز اتساع نطاق الشمول المالي، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال نحو 5 في المائة فقط من الأشخاص لديهم حسابات مصرفية، فإذا كان لدى الجميع إمكانية الوصول إلى حساب في البنك المركزي لبلدهم، ويمكنهم استخدام تلك الحسابات المصرفية لإجراء معاملات فورية مع الآخرين باستخدام عملة رقمية، مقابل رسوم قليلة أو دون رسوم، فإن ذلك سيجذب الملايين من المواطنين إلى قلب النظام الاقتصادي الوطني والعالمي.
مع هذا لا نستطيع إنكار وجود بعض الملاحظات التي يشير إليها الخبراء بوصفها تحديا لفكرة إصدار عملة رقمية من قبل البنوك المركزية.
وهنا تقول ستيلا ليو الخبيرة المالية لـ"ألاقتصادية" إنه "على الرغم من أن التكنولوجيا ستخفض من تكاليف المعاملات وتزيد الشمول المالي، فإن العملات الرقمية للبنوك المركزية تثير أيضا مخاوف بشأن الخصوصية الشخصية، فبرمجيات العملات الرقمية ستمنح البنوك المركزية وسيلة فعالة وقابلة للقياس الكمي لمراقبة بيانات العملاء وتنظيم المعاملات، مع تقديم معلومات مفصلة للغاية حول كل معاملة مالية، وهذا يمثل مستوى عاليا من الرقابة الحكومية المضبوطة بدقة".
على أي حال يصعب القول إن تلك الملاحظات ستمنع البنوك المركزية من المضي قدما لإصدار عملتها الرقمية القادمة لا محالة في الأعوام المقبلة، فنمو الجهات غير المصرفية في مجال المدفوعات في الأعوام القليلة الماضية وكان من أبرزها العملات المشفرة، جعل البنوك المركزية تخشى من تآكل محتمل فيما يتعلق بدورها الرقابي في مجالات مهمة وذات طابع استراتيجي مثل إدارة البيانات وأنظمة تسوية المدفوعات وهي المجالات التي أشرفت عليها البنوك المركزية من خلال البنوك المرخص لها، لذلك ستسمح العملات الرقمية للبنوك المركزية بمزيد من التحكم المباشر في حركة المال في الأسواق، وبالطبع سيقضي ذلك إلى حد كبير على الشفافية والخصوصية المالية، لكن المؤكد أيضا أنه سيقضي تماما على عمليات الاحتيال المالي وغسل الأموال وعديد من الجرائم المالية التي تتسبب في خسارة الاقتصاد العالمي مليارات الدولارات سنويا.

سمات

الأكثر قراءة