العالم .. رقعة شطرنج تحكمه الأخطار وأثر الفراشة
يعيش العالم على وقع تحول شديد الصعوبة منذ عام 2020، بتعرضه لهزات عنيفة عبر موجات متوالية، امتزج فيها كوارث الطبيعة مع أزمات الاقتصاد ... صحيح أن التحول هو الأصل في العالم، لأن النظام الدولي لا يثبت أبدا على حال واحد، فصراع القوى يؤسس لمبدأ الصعود والأفول، ودينامية التفاعلات الداخلية والبينية تجعله في حالة تطور مستمر، وتوالي الأحداث - منذ الأزل - يولد التغيير والتطور المستمرين في حتمية تاريخية لا محيد عنها.
تبقى سرعة حدوث هذه التحولات، ولا سيما خلال العقد الحالي، أمرا مثيرا للغاية، فضلا عن النطاق والمدى التي تغطيه. فالوقائع أثبتت أن تجنب تأثير هذه التقلبات لم يعد ممكنا في أي مكان على الكرة الأرضية، لأن الموصلات أضحت فائقة التوصيل. هكذا، وبكل بساطة، أصبح انتخاب رئيس في دولة أو نشوب حرب في إقليم أو انهيار بنك في ولاية ما في دولة بعيدة ... حدثا مؤثرا، يحتم على رجال السياسة وأهل الاقتصاد الشروع في حساب المخاطر والعوائد.
في الماضي، كان إيقاع التحول إجمالا يجري بشكل بطيء، لدرجة يصعب معها على غير المراقب والمختص أن يدرك الأمر، إلا حين يقترب من الانتهاء، ويسفر عن نتائجه. عكس ما يحدث بعد عام 2020، حيث صارت التحولات نوعية ومتزامنة، في مختلف الاتجاهات، حتى أضحت القاعدة أن "كل الأشياء تؤثر في كل الأشياء"، وباتت البقاء للأسرع في التفاعل، والأقل في الانكشاف أو الأكثر استعدادا متى تعلق الأمر بالفرص.
سياسة الترقب والانتظار التي حكمت تحرك القوى الكبرى في العالم عقودا من الزمن، باتت غير مجدية أمام ما استجد من إشكالات كبرى، بدء من الكوارث الطبيعية والأمراض الوبائية والصراعات الإقليمية والاضطرابات الاجتماعية، وليس انتهاء بالثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي ... بقدر ما تتعدد جبهات التحول في كل الاتجاهات، تصبح السرعة في التعاطي مطلوبة لكسب الرهان.
يكفي النظر إلى المصطلحات المتداولة لتوصيف ما يقع، لنكتشف حجم التحول ومداه الذي يشهده العالم، فطالما استخدم محللون مصطلحات جديدة مكونة من عدة كلمات متناقضة أحيانا، واهتدى غيرهم إلى عملية البحث عن مصطلحات فرعية تسعفهم في تقريب رؤاهم وتصوراتهم وأفكارهم بشأن ما نعيشه من تحولات، مثبتين بذلك صعوبة العثور على عبارات بسيطة أو نهائية لوصف ما يحدث. خذ على سبيل المثال حرب أوكرانيا: تم تداول توصيفات مختلفة لها، من قبيل: "حرب خطأ" أو "حرب بالوكالة" أو "حرب استنزاف".
وسقط آخرون في عملية استدعاء الماضي لتفسير الحاضر، بادعائهم قابلية الحقب التاريخية للتكرار، فالمرحلة التي يمر بها النظام الدولي، من منظور هؤلاء، تشبه مرحلة ما بين الحربين العالميتين (1918-1939). يسقط أصحاب هذا الرأي في تناقض مع أنفسهم من حيث لا يشعرون، فهذا القول يسقط عن النظام العالمي صفة التحول الدائم التي تعد ميزة أساسية في العالم. فضلا عن اختلاف القوى الفاعلية فاللاعبون والأدوات والوسائل ... وبالضرورة والاستلزام القضايا والإشكالات في عالم اليوم غير ما شهده العالم، في الربع الثاني من القرن الماضي.
كان الصراع في الماضي بين أقلية، تتمثل أساسا في الدول الأوروبية المهيمنة على النظام الدولي، تسعى جاهدة إلى الحصول على النصيب الأكبر من كعكة المستعمرات، ما شكل خريطة واضحة بشأن الأحلاف والمحاور عمادها في الأساس ولاء أيديولوجي. خلافا لما عليه الوضع العالمي الراهن، حيث الارتفاع في القوى المتنافسة بحثا عن مكانة دولية، علاوة على استناد الاصطفاف إلى منطق براجماتي ومصلحي، ويحدث أن تجد داخل التكتل الواحد عددا من الدول غير المنسجمة تماما (الصين والهند مثلا).
الاضطرابات الاجتماعية المتلاحقة في الدول المتقدمة ملمح من ملامح التحولات في العالم، فالقلاقل والتوترات في العالم النامي أمر مفهوم مقبول وحتى مستساغ، من منطلق المقارنة مع الأوضاع القائمة في دول العالم الأول. لكن أن ينفجر الوضع في أنظمة سياسية (بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة ...) يفترض أن لديها من القوة والمرونة ما يجعلها قادرة على الامتصاص والاحتواء، يطرح أكثر من علامة استفهام حول قدرة هذه الدول على المناكفة والتنافس مع باقي القوى الدولية.
بروز فاعلين من غير الدول يمثل بدوره صورة أخرى للتحول، فما فعلته وسائل التواصل الاجتماعي في العقدين الأخيرين، حتما لن تقوى دول عديدة على القيام مهما بلغت قوتها. خذ على سبيل المثال قدرتها على التحكم وتوجيه وصناعة الرأي العام، حتى تأليبه أحيانا، فالواقع أظهر أن هذه المنصات نجحت في تجاوز وظيفة التواصل التقليدي التي تمنح كل فرد نافذة شخصية، لتتحول إلى إعلام بديل يصنع الرأي العام، وسلاح حقيقي يستخدم بشكل منتظم من جانب جماعات "داعش مثلا" ودول (روسيا، بريطانيا ...) في عمليات نفسية شديدة التعقيد، من خلال أجهزة وكتائب ومؤثرين.
يوما بعد أخيه تثبت للجميع حقيقة أن العالم بصدد الدخول في مرحلة جديدة تستدعي منظورا مغايرا للأزمات والقضايا والإشكالات، قوامه التجديد في المفاهيم والمقاربات والوسائل والأدوات ... فزمن التحولات الكبرى في التاريخ، التي عادة ما تتخذ شكل قطرات يتسارع سيلها مع مرور الوقت، انتهى بشكل لا رجعة فيه. فالبشرية اليوم تعيش في عالم أشبه برقعة شطرنج تحكمه الفوضى والأخطار وأثر الفراشة، حتى باتت مساعي الفهم والتحليل منشطرة ما بين القائم والقادم.