خدمة الحجيج .. 100 عام من التطور السعودي
في صالة الحجاج يستريح الجميع، وجوه متعددة وجنسيات مختلفة، ملابسهم البيضاء علامة على توحيد الإسلام لهم، ووجوههم المتشوقة للشعيرة العظيمة تفيض بالحب، كثيرون جاؤوا للمرة الأولى هنا، الشاب الأوروبي الثلاثيني الممسك بهاتفه لمراجعة التعليمات من خلال منصة نسك، وآخر آسيوي رفيقه يستعرض تطبيق زمزم أو منصة تخبره بمساره داخل البيت الحرام، فيما يتابع رجل سبعيني عربي مع ابنه مطار الملك عبدالعزيز الدولي المصنف في المرتبة الـ41 ضمن أفضل 100 مطار في العالم بحسب منظمة سكاي تراكس.
يتأمل الرجل السبعيني المباني الشاهقة عالية الارتفاع، والمدهشة في التصميم كذلك، يتذكر الطوابير التي اختفت، والمشقة التي لم يعد لها وجود، ويروي لابنه عن أول حج له منذ أربعة عقود، كانت هنا البداية أيضا، وقد انتهت المملكة حينها من افتتاح هذا المطار في 31 أيار (مايو) 1980 ليكون بوابة مكة المكرمة الجوية، ويخدم الحجاج بصالة صنفت الرابع عالميا من حيث حجم الاتساع، وقتها ظننا إنه ليس هناك أكثر من هذه الراحة، لكن ما يراه الآن، وكل شيء من خلال ضغطة زر حتى التأشيرة الإلكترونية، يجعل ما مضى يشبه العصور القديمة تقنيا، يبتسم الابن لأبيه الذي يقارن بين الأمس واليوم، فيما يقول الشيخ الطاعن في السن، إن السعودية كعادتها تحمل الأمة الإسلامية على كف الراحة كل عام.
هذا الحمل الذي أثبتت الدولة السعودية أنها جديرة به لنحو قرن من الزمان، لم يتوقف عند حدود تأمين الطرق وتوفير وسائل مواصلات لمئات الآلاف سنويا، بل منذ اللحظة الأولى كانت أولوية ملوك البلاد، هي المساهمة في توفير كل سبل الراحة الممكنة للحجيج، ومن أجله وفروا أفضل الخدمات، وأمهر الكوادر، وآخر الاختراعات التي من شأنها تسهيل حياة الناس والتخفيف من معاناتهم. نظرة تاريخية واحدة تؤكد ذلك، فحين ضم الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله- الحجاز إلى نجد، كان أول ما فعله صيانة المسجد الحرام وإصلاحه كليا قبل أن يطلي جدرانه ويصلح أعمدته ثم يركب مظلات لوقاية الحجاج من حرارة الشمس، ثم يقدم على تجديد الإنارة بألف مصباح.
كل خطوة من تلك الخطوات البسيطة في نظرنا الآن، كانت حينها تجسد أحدث الاختراعات الحديثة التي لم تستطع معظم الدول توفيرها آنذاك، حتى كان 1945 بتأسيس مطار الملك عبدالعزيز الدولي، وكان اختيار جدة لأول مطار سعودي رسالة لجميع المسلمين بأن زمن الرحلات الشاقة إلى مكة قد ولى، بعد آلاف الكيلومترات على الجمال برا أو على متن السفن بحرا.
سنة الملك المؤسس، لم يحد عنها كل من خلفوه من أبنائه من ملوك السعودية، فاستمرت الجهود التي رفعت شعار "من أجل راحة الحجاج"، وأكمل الملك سعود المسيرة عام 1956 بتوسعة استغرقت عشرة أعوام، تم فيها تبليط المسعى، إضافة إلى السلم المتحرك إلى الكعبة والذي كان طوق نجاة لكبار السن لتأدية المناسك دون أي مجهودات كبيرة، فيما أضاف الملك فهد اختراعا آخر حين تم تركيب تكييف مركزي للبيت الحرام، فأتقى الحجاج شر حر الصيف الذي تنتج عنه حالات إغماء، فضلا عن الإنشاءات وتمهيد الطرق وتوفير الفنادق، ما جعل الأمر أيسر في ظل تطور مستمر في حركة الطيران، وتسهيل الإجراءات وتوفير فرق عمل دؤوبة على مدار الساعة، وكالعادة تنجح المملكة في تنظيم أكبر تجمع سنوي بشرف وفخر.
خلال العقدين الماضيين، ومع التطور التكنولوجي الهائل، لم يكن زوار بيت الله على موعد مع راحة أكثر فقط، بل مع استراتيجية ستنقلهم إلى مستوى آخر من الراحة والأمان، وذلك من خلال خطط واضحة تم اعتمادها في 2016 لتطويع التكنولوجيا الجديدة لخدمة الحجاج، بجانب خمسة مشاريع دشنها الملك سلمان - حفظه الله - كأكبر توسعة في تاريخ البيت الحرام لرفع الطاقة الاستيعابية إلى مليوني مصل.
ليس هذا فحسب، فأهم ما حدث خلال الأعوام الأخيرة، هو مبادرة طريق مكة بإشراف من وزارة الداخلية، حيث إن الراحة تبدأ من حيث يسافر الحاج نفسه، بدءا من الجمارك والجوازات في مطار بلده المحلي، وشحن حقائبه وإرسالها إلى غرفته في الفندق، كذلك دشنت الحملات التوعوية في جميع الدول وبنحو 11 لغة لتعريفهم بالأنظمة المحلية المتعلقة بالطيران، مع رفع كفاءة ستة مطارات دولية أربعة منها ضمن أفضل 100 مطار في العالم، نتيجة ذلك تمكنت المملكة من استقبال 1.7 مليون حاج في حج موسم 1444 (2023) من خلال نحو سبعة آلاف رحلة جوية، وتلك مجرد خطوة فقط تحقيقا لمستهدفات رؤية 2030 من خلال ارتفاع أعداد المعتمرين إلى 30 مليون معتمر سنويا.
وإذا كانت البنية التحتية وخطوط السفر المريحة عنوانا للحج في الأعوام الماضية، فإن حج 2023 كان اختبارا قويا لمنظومة البنية الرقمية السعودية، وتدل الأرقام والإحصاءات على نجاح تلك المنظومة، فمن خلال منصة نسك تم إصدار 1.8 مليون تأشيرة إلكترونية في وقت قياسي، إضافة إلى 121 خدمة إلكترونية جسدت حلا سحريا لحج ميسر خاصة على كبار السن وذوي القدرات الخاصة والأيتام الذين وصل عددهم إلى نحو 500 شخص، بعد تقديم خدمات ميسرة لهم وتذليل العقبات اللوجستية في طريقهم لتأدية الفريضة.
وبجانب قطار المشاعر المقدسة الذي تمكن من نقل 300 ألف حاج في وقت قياسي وبشكل آمن، فإن تطبيقات مثل "توكلنا" الذي وصل عدد مستخدميه إلى 17 مليون مستخدم بعد إطلاقه بسبع لغات، و"زمزم" و"تروية" اللذان أسهما في إكمال الشعائر بشكل منظم، إضافة إلى منصة "منارة الحرمين" التي بثت خطبة عرفة مترجمة إلى 20 لغة، للوصول إلى 300 مليون مستفيد.
ولأن كل ذلك يتطلب في الأساس شبكة اتصالات قوية تليق بالمملكة التي تحتل المركز الأول في مؤشر لجنة الأمم المتحدة لغرب آسيا للرقمنة، فإن ما تم تسجيله فاق التوقعات، فبحسب مؤشر الاتصالات، استهلك الحجاج في سابع أيام الحج 4.61 ألف تيرابايت أي ما يعادل 1.89 مليون ساعة من المقاطع المرئية بدقة 1080، أما معدل الاستهلاك اليومي فبلغ 758 ميجا بايت متجاوزا ضعفي معدل الاستهلاك العالمي للفرد والبالغ 270 ميجا بايت، ووصلت سرعة رفع البيانات إلى 27 ميجا بايت في الثانية، لتؤكد السعودية جدارتها في المنظومة التي جعلت من موسم 2023 حجا استثنائيا.
وبعد انتهاء موسم الحج بنجاح، وخلوه من أي أمراض وبائية، تظل الصورة عالقة لدى المسلمين حينما احتفى الأمير محمد بن سلمان ولي العهد بأصحاب الفخامة الزعماء وكبار الشخصيات الإسلامية الذين أدوا فريضة الحج لهذا العام، ضمن حفل الاستقبال السنوي في قصر منى. ويكفي السعوديين شرفا ورفعة بأن ما حققته دولتهم في الـ100 عام الماضية، هو منهج أساسه مفهوم عميق عبر عنه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بقوله، "رعاية الحجاج والمعتمرين وخدمتهم والسهر على راحتهم في قمة اهتمامات الدولة منذ تأسيسها ولا تزال، وستبقى تفخر بمواصلة تلك المهمة بأعلى كفاءة".