الدراسات المناطقية .. تنطيق استراتيجي للعالم
تعد الأقاليم إحدى الحقائق التي تشكل خريطة العالم، فالإقليم من أكثر المفاهيم أصالة في الدراسات الدولية الذي عاد، في الآونة الأخيرة، ليحتل الصدارة في الرصد والمراقبة والتحليل والتوقع. ولا سميا أن معظم مناطق العالم تشهد تحولات ستفضي لا محالة إلى عملية إعادة هيكلة حادة، فما يجري من تفاعلات تتطلب البحث عن توصيف مناسب، لأن العالم في "حالة رمادية تسيطر على الأقاليم، فالصراعات لا تجدي والتحالفات لا تستمر، ويبدو الجميع في حالة تجريب، دون يقين حول ما ستصل إليه في النهاية".
تحولات فرضت عودة قوية ومتجددة للدراسات المناطقية، رغم تردد تأكيدات بلغت درجة الجزم، على لسان ثلة من الباحثين، بأفول هذا المجال البحثي، بعدما وضعت الحرب الباردة أوزارها عقب انهيار الاتحاد السوفياتي. فالهيمنة الغربية أو "نهاية التاريخ" بتعبير فوكوياما، أدت بحسب هؤلاء إلى تراجع - وربما حتى سقوط - الحاجة إلى هذا الصنف من الدراسات. قبل أن تكشف معطيات الواقع أن الحقيقة خلاف ذلك تماما، فالتطورات المتلاحقة على مسرح الأحداث العالمي تعيد الرهان وبقوة على الدراسات المناطقية، وذلك بالبحث في كيفيات ترسيم الحدود لهذه الدراسات في ظل الواقع المتغير للسياسة الدولية؟
تاريخيا، مثلت مجريات الحرب الباردة (1947-1991) طورا مهما في تطور هذه الدراسات، ولا سيما في الولايات المتحدة، التي تبلور سياستها الخارجية بناء على تحديدها للمناطق في إطار الدول القومية وتوجهاتها الأيديولوجية. توجه تولدت عنه استراتيجية مضادة من جانب الدول المعادية لمعسكر واشنطن، ترجمت في ميثاق تعليم الدفاع الوطني في 1958، الذي أسست على أساسه مراكز البحث في الدراسات المناطقية.
وجبت الإشارة في سياق التأريخ إلى السبق البريطاني في هذا الحقل المعرفي، فبوادر الدراسات المناطقية، بالمعنى الحديث للمفهوم، ظهرت مع الدولة البريطانية تماشيا مع سياستها الاستعمارية من ناحية، مصالحها التجارية الدولية من ناحية ثانية. وقبل ذلك سعيا وراء فهم أسباب ودواعي انهيار الإمبراطوريات، بداية القرن الـ20، وذلك من خلال معاهد مختصة في دراسات المناطق "مدرسة الدراسات السلافية (1915) ومدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية (1916)...
استطاع الأكاديمي الفرنسي بنيدكت بوشاسن تكثيف المحطات الكبرى التي شهدها حقل الدراسات المناطقية بقوله: "... لأن المناطق الإقليمية الواسعة أثبتت أنها أكثر سهولة للسيطرة منها في تجمعات إقليمية مهيكلة جيدا، ما يؤكد استمرارية الحاجة للدراسات المناطقية التي صنعتها في السابق الضرورة الاستعمارية، وأسست لها بمعايير أخرى المخاوف الإقليمية المصاحبة للحرب الباردة وأعادت إنتاجها توظيفات الهيمنة للأقاليم بعدها".
تثير التقاطعات ما بين "الدراسات المناطقية" مع "الدراسات الإقليمية" كثيرا من الالتباس، رغم اعتماد فصيل من الخبراء بوصلة البحث معيارا للتميز، فالدراسات الإقليمية عادة ما تكون موجهة نحو الداخل، بانحصار البحث في تفاعل جميع العناصر داخل الإقليم الواحد، عكس الدراسات المناطقية التي يؤطرها البعد الخارجي. فيما نحا تيار آخر منحى الدمج بين مفهوم الدراسات "المناطقية" و"الإقليمية" من أجل تراكمية واسعة لتطورات الحقل، فالدراسات الإقليمية تمنح خصوصية نظرية من شأنها بناء استبصارات جديدة تتحرك على هديها الدراسات المناطقية.
توظف الدراسات المناطقية توليفة ثنائية تمزج ما بين الجيوبوليتيك والجيواستراتيجي، متجاوزة بذلك الأطر التقليدية لهذا الحقل المعرفي، في الحقبة الاستعمارية، المستغرق آنذاك في الأبحاث الثقافية والاجتماعية والتاريخية ومسارات تفاعلها داخل الإقليم استنادا إلى التراكمات الهوياتية. توظيف يؤسس لتفاعل خاص على المستوى الدولي، من خلال الحالات المناطقية التي عملت على تطوير إقليميتها في مشهد خاص، تمهيدا للطابع الجيواستراتيجي الذي يجعل من المناطق فضاءات كبرى للتنافس ومسارح للصراع.
أسهمت التحولات الدولية المتسارعة في أكثر من منطقة في العالم في تجديد الدراسات المناطقية، بالتخلص من إرثها التقليدي المقترن بالعامل الأيديولوجي والتوظيف التاريخي، لمصلحة هيكلة دولية تراعي حساسية السياق الذي بات عنصرا محوريا في هذه الدراسات. وهذا ما عبر عنه المؤرخ الأمريكي والأكاديمي في جامعة هارفرد، روبرت جودن، بقوله إن "الاهتمام بالسياق لا يفسد الوصف والتفسير للعمليات السياسية، أو الاجتماعية بشكل أوسع نطاقا، بل بالعكس فإن هذا الاهتمام يعزز المعرفة المنهجية".
توالي الأحداث على الصعيد العالمي، خاصة بعد 2001، يؤكد مقولة إيف لاكوست عميد الجيوبوليتك في فرنسا حين عد بأن "الحديث عن اللاإقليمية لا يعني عدم وجود إقليم بل يؤكد وجود إقليم آخر". وهذا عين ما يجري في العالم حاليا، فتراجع منطقة يكون على حساب صعود أخرى، والتخلي عن الاهتمام بإقليم معين لا يحدث إلا بعد العثور على آخر بديل عنه. فالأطر السياسية على المستوى الدولي لا تزال، وستبقى في المنظور القريب على الأقل، محكومة أكثر بقيمة الجغرافيا.
صحيح أن "الإنسان سيبادر لكن الطبيعة ستحكم" والقول هنا للأكاديمي الأمريكي روبارت كابلان، ما يعني أن الدراسات المناطقية لا تزال تشكل بوصلة توجه السياسات في أكثر من رقعة جغرافية، فالصراع على منطقة بعينها، على غرار ما يجري حاليا بين الكبار بشأن منطقة الهندوباسيفيك، أو في مناطق بعينها في القارة الإفريقية، وتحديدا دول غرب وشرق إفريقيا، خاضع لقواعد الجغرافيا بالدرجة الأولى قبل أي متغير آخر.
لكل ذلك يتوقع أن تستعيد دراسات المناطق أهميتها في خضم الأزمات الدولية الراهنة، والتحولات والتفاعلات التي يعيشها العالم بفعل الديناميكية في أركان العالم الأربعة، جراء احتدام الصراع بين القوى الكبرى على معالم النظام العالمي الجديد. لذلك لم يتردد الأكاديمي الأمريكي من أصل هندي أميتاف أتشاريا، أحد رواد الدراسات المناطقية في العالم، في التأكيد على أنه "لم يعد ينظر إلى المناطق على أنها كيانات مادية ثابتة أوخرائطية أو ثقافية، وإنما كمساحات ديناميكية هادفة ومبنية اجتماعيا.. أو بمعنى آخر هي بنى مادية وفكرية تتولد من الخيال والخطاب والتنشئة".