تحلية المياه .. كيف نجحت السعودية في مواجهة أخطر تهديد للأمن القومي؟
نأى لوهان بنفسه عن الصراعات السياسية التي تعيشها بلاده، فلم ينجرف نحو اتحاد القوميين والشيوعيين بقيادة الثائر ماو قبل أن يصبح الزعيم التاريخي لبلاده، ولا تعاون مع اليابان التي احتلت أجزاء من أرضه، ورغم أن تلك عوامل كفيلة بحياة هادئه له، لكنه كان دائم القلق بسبب قلة الأمطار خلال الشتاء مع صيف شديد الحرارة، وهو ما يعني كارثة دفعته لمغادرة كوخه هذا الصباح مهرولا نحو أرضه لمتابعة محصول الأرز الذي يحتاج في ريه إلى مياه غزيرة، وما خشاه وجده، إذ قضى الجفاف على كل شيء.
ما عاشه لوهان، المزارع الصيني في 1941 لم يكن سوى صورة لأسوأ موجة جفاف في التاريخ الحديث والتي شهدتها الصين في العام نفسه وأدت إلى وفاة ثلاثة ملايين شخص وتبوير ملايين الهكتارات من الأراضي آنذاك.
ورغم أن الأرض معروفة بـ"الكوكب الأزرق" بسبب لون المياه الظاهر على خريطتها، لكن الأرقام الرسمية تشير إلى عكس ذلك، فـ 97.5 في المائة من المسطحات المائية مالحة أو ملوثة، فيما يقدر البنك الدولي متوسط حاجة الفرد من المياه سنويا سواء للشرب أو الزراعة وإنتاج الطاقة وباقي الأنشطة، بألف متر مكعب وهي وحدة قياس المياه.
مشاركة أكثر من 192 دولة نسبة 2.5 في المائة من المياه، لم تكن سهلا، بل وبسبب ذلك أضحت نقطة المياه أخطر تهديد يواجه البشر، وعلى رأس أولويات كل الدول، فأي نقصان يعني مواجهة الفناء، ولذلك لم يكن غريبا أن تنشأ حروب طاحنة على مصادر المياه من أنهار وبحيرات فيما باتت تعرف في التاريخ بـ"الحروب الزرقاء".
ونجد مع خديوي مصر إسماعيل باشا أبرز الأمثلة في التاريخ الحديث، ففي الفترة من "1868-1876" جهز حملة عسكرية تنطلق إلى بلاد الحبشة "إثيوبيا" حاليا، لتأمين منابع نهر النيل باعتبار الأخيرة دولة منبع وقد هددت بحرمان مصر من المياه، ودارت معارك شرسة استطاع الجيش المصري حسمها لتأمين نقطة مياه.
ومن إفريقيا إلى أمريكا استمرت الحروب الزرقاء، وفي الأخيرة نشب عام 1913 نزاع مسلح بين أهالي لوس أنجلوس ووادي أوينز بسبب مصب مائي مشترك بينهما، وكذلك الحال بين ولايتي أريزونا وكاليفورنيا عام 1935 ما أدى إلى تدخل 100 جندي من الحرس الوطني حتى لا تراق الدماء.
الأنهار العابرة للدول، عنوان يبدو دليلا على تدفق الحياة، لكنه في الحقيقة عنوان للصراعات العسكرية، فمع ندرة الموارد المائية، أقدمت الدول على بناء السدود لاحتجاز أكبر قدر من المياه ليكون مخزونا استراتيجيا وقت الحاجة، هذا ما فعلته تركيا في سبعينيات القرن الماضي، حين أقامت سد كيبان على أحد مصبات نهر دجلة التي تشترك فيه مع العراق ما أدى إلى تضرر الأخيرة واتهام أنقرة بإعلان الحرب.
ورغم أن الأمم المتحدة حاولت ضبط الأمور من خلال اتفاقية الأنهار الدولية المشتركة عام 1997، والتي نصت فيها أنه من حق أي دولة بناء سدود وتأمين أمنها المائي طالما لم تتسبب في أي ضرر للدول المشتركة معها في المصب المائي، لكن ذلك لم يمنع من نزاعات مثلما حدث أخيرا بين إيران وأفغانستان بسبب نهر "هيرمند" المشترك بينهما، أو ما يحدث بين مصر وإثيوبيا بسبب سد النهضة، وأخيرا وصل النزاع إلى المياه الجوفية كما يحدث بين المغرب والجزائر، إذ تتهم الأخيرة الأولى بأنها تمد أنفاقا تحت الأرض في الحدود المشتركة بينهما لسحب المياه الجوفية.
باعتبار معظم المسطحات المائية بحار ومحيطات، فكيف نجعلها صالحة للاستخدام الآدمي لنحل الأزمة بعيدا عن رصاص البنادق، سؤال أنتج ما بات يعرف بـ"تحلية المياه"، ورغم أن تقارير صحافية تشير إلى أن تحلية المياه بدأت منتصف خمسينيات القرن الماضي، لكن الحقيقة أن السعودية هي أول دولة في العالم تتبع تلك التقنية، والتي استلهمت فكرتها من السفن العسكرية التي تقضي أياما في البحر دون التزود بالمياه، لذلك تلجأ إلى التحلية بوساطة التقطير والمقصود بها تبخير المياه حتى تتخلص من ملوحتها وتصبح صالحة للاستخدام، وكان الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله- أول من توصل إلى تلك الفكرة في 1928 حين أمر بتشغيل وحدة تكثيف وتقطير للمياه المالحة في مدينة جدة وعرفت حينها بـ"الكنداسة".
وككل شيء أخذ نصيبه من التقدم، كان لتحلية المياه نصيبها بداية من إنشاء أول محطة تحلية كبيرة بسعة 625 ألف جالون في هولندا، ووصولا إلى الكويت التي احتضنت أول محطة بالكهرباء داخل دول الخليج عام 1951، أما السعودية فلم تتوقف عند حدود محطات تحلية فقط، بل عملت على وضع استراتيجية لأكبر مصدر للحياة، فأسست عام 1965 إدارة تابعة لوزارة الزراعة والمياه تتولى التحلية، قبل أن يتطور ذلك في 1974 بإنشاء المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة التي تمتعت بالشخصية الاعتبارية والغرض منها تأمين الموارد الطبيعية بطريقة تحلية المياه المالحة في مناطق المملكة ومدنها.
ومنذ تلك اللحظة استطاعت السعودية أن تتصدر قائمة أكثر الدول نجاحا في تحلية المياه، وذلك بنصيب تسعة ملايين متر مكعب يوميا، بلغ نصيب المؤسسة منها أكثر من 65 في المائة، أي ما يتجاوز ستة ملايين متر مكعب، في حين بلغ إنتاج القطاع الخاص ما يقارب ثلاثة ملايين متر مكعب يوميا، وكلفت المشاريع المائية حتى 2022 أكثر من 60 مليار ريال منها المشاريع النوعية مثل بوارج الإنتاج المتنقلة وإيصال المياه إلى المناطق النائية والحدودية.
وفي وقت يفتقد 785 مليون شخص على مستوى العالم نقطة المياه النظيفة، تعاني دول أخرى تزايد آثار التغيرات المناخية التي تسببت في موجات جفاف أعنف 20 ضعفا من السائد في العقود الماضية، آخرها الصين التي تعرضت لموجة أخيرا أدت إلى بوار أكثر من 700 ألف فدان، فيما تستعد هولندا لمصير مشابه بعد أن ضربتها عاصفة صيفية، والسؤال هل تلحق دول العالم بركب السعودية في ظل صيف تشير بشائره إلى أن حصيلته لن تكون سهلة، ولا سيما أن الطموح السعودي يعتزم إنتاج 14 مليون متر مكعب يوميا بحلول 2025 بأحدث التقنيات من خلال الشمس أو "التحلية الحرارية"، لتصبح الدولة الوحيدة التي تتمتع بمناخ دافئ وأمطار متوسطة لكنها نجحت في تحييد أخطر تهديد لأمنها القومي، وهو ما يجعل بالطبع سكانها يستخدمون سر الحياة بكل طمأنينة من الصباح الباكر حين موعد تناول القهوة أو الاستحمام بالماء الدافئ ليلا.