غانا .. منارة ديمقراطية تسندها ريادة اقتصادية
السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، هكذا جرى الحديث على لسان من خبروا المجالين، قبل أن تنهض التجارب في عدد من الدول بمهمة إثبات ذلك. غانا دولة في هذه القائمة، حيث أفضت التجربة الديمقراطية اللامعة، في وسط إفريقي مضطرب، يسود داخل دول غرب إفريقيا، إلى ريادة اقتصادية، استطاعت حجز مكانها ضمن "العشر الكبار في إفريقيا". فخلال أعوام قليلة تبوأ البلد المركز الثامن، ضمن لائحة أقوى اقتصادات القارة الإفريقية، بحجم ناتج محلي إجمالي وصل إلى 72،4 مليار دولار في 2020.
ثمار الحاضر على الصعيدين السياسي والاقتصادي، نتاج تراكمات الماضي، فـ"ساحل الذهب"، وهو الاسم القديم لمملكة غانا الذي أطلقه البرتغاليون عليها أواخر القرن الـ15، تناوبت عليه ثلاث قوى استعمارية أوروبية تباعا، بدءا بالبرتغاليين الذين نهبوا البلاد لأزيد من 170 عاما (1471-1642) ثم الإمبراطورية الهولندية (1642-1872)، قبل أن يطردها البريطانيون الذين أحكموا قبضتهم على البلاد لنحو ستة عقود (1896-1957)، انتهت بانتصار الغانيين على الجميع، في تجربة تحرر وطني فريدة من نوعها إقليميا، جعلت من غانا أول دولة مستقلة في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في ستينيات القرن الماضي.
صفحات من تاريخ مجيد
تجمع المصادر التاريخية على قدم دولة غانا، فبعض الروايات تتحدث عن تاريخ نشأة يعود إلى القرن الرابع للميلاد، على يد الملك كاز، أول ملوك مملكة غانا الممتدة جغرافيا، ما بين نهر النيجر شمالا إلى المحيط الأطلسي جنوبا. وتعاقب على حكمها، في عهد الأسرة الحاكمة الأولى، نحو 44 ملكا، لتبلغ المملكة أوج ازدهارها في القرن الـ11 للميلاد. يفضح هذا التاريخ سردية شائعة في الكتابات الأوروبية، تزعم أن منطقة جنوب الصحراء لم تعرف سوى الاقتتال العشائري والصراع القبلي حتى ظهور الإنسان الأوروبي الأبيض، التي وطنها معالم المدنية والعمران.
تناقل ألسن البرتغاليين، باعتبارهم أول المستكشفين الأوروبيين، أخبار أسرار خيرات البلاد، وما تختزنه بواطنها من ثروات من معدن الذهب. فذاع صيت هذه المنطقة في القوى الاستعمارية الأوروبية المتنافسة فيما بينها على الموارد، فتوفيرها أساس ضمان استمرار الدولة في الخطط الاستكشافية والحملات التوسعية.
حول معدن الذهب غانا إلى بؤرة للصراع بين الكبار، كلف الغانيين أثمانا باهظا، فالاستعمار قذف بالبلد، رغم الثروات الكمية والنوعية، في دوامات الفقر، وجعل السكان عبيدا في خدمة سادة القارة الأوروبية. خاصة خلال حقبة الاستعمار البريطاني الذي حول غانا التي كانت ضمن إمبراطورية الأشانتي الممتدة من الشاطئ الغاني إلى أعماق الصحراء إحدى محمياته الأساسية في مسيرة التوسع البريطاني داخل القارة الإفريقية.
نزوع قبلي نحو الديمقراطية
استطاعت غانا الفكاك من الاستعمار البريطاني مبكرا، بنيلها الاستقلال في 1957، فانطلقت مسيرة بناء الدولة، بانتخاب زعيم التحرير كوامي نكروما، عن حزب المؤتمر الشعبي، أول رئيس للجمهورية. لم يفد إرثه النضالي في استمرارية شعبيته التي تعرضت لانتكاسة قوية، وتحديدا في الولاية الثانية، بسبب الممارسات السلطوية لحزبه. ما جعله هدفا لأكثر من جهة، المعارضة السياسية من ناحية، وضباط الجيش من ناحية أخرى، ما اضطره إلى مغادرة البلاد، في 1966، بعد الانقلاب عليه.
بعد أربعة انقلابات عسكرية، خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، عادت البلاد أواخر 1992 إلى سكة الديمقراطية والحكم المدني، بإطلاق عملية تحول ديمقراطي شاملة، سهلت عودة طبيعية وسلسة إلى المسار السياسي السلمي، بعد إقرار أول دستور سمح بالتعددية الحزبية، ونجح في إتمام انتقال الأمة الغانية الوليدة، زمن الستينيات، من الفساد والاستبداد إلى الديمقراطية والاستقرار.
انقضت ثلاثة عقود على بداية التحول الديمقراطي، شهدت ثماني محطات انتخابية رئاسية، انتقلت فيها السلطة بلا اقتتال أو عنف بين عدة رؤساء بانتماءات حزبية مختلفة، في بلد يضم أكثر من 100مجموعة عرقية، وتعددية دينية تضم المسيحية والإسلام وبقايا المعتقدات الإفريقية. كل ذلك بفضل وعي وتوافق الجميع على احترام قواعد الممارسة الديمقراطية، ففي عز احتدام التنافس الانتخابي، مثلما حدث بين نانا أكوفو وجون ماهاما اللذين تواجها ثلاث مرات، اهتدى الطرفان إلى توقيع "ميثاق سلام" للحفاظ على الاستقرار واحترام نتائج الصناديق.
يسير الغانيون بخطا ثابتة نحو تاسع انتخابات رئاسية في البلاد عام 2024، في واحدة من أنجح النماذج الديمقراطية الناشئة في إفريقيا، فهي بمنزلة نموذج استثنائي نادر عن نجاح الممارسة الديمقراطية في القارة الإفريقية، في جوار إقليمي قوامه سيولة انقلابية وصراع مستمر على السلطة. تجربة ديمقراطية واعدة، دفعت الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما إلى اختيارها، في 2009، لتكون أول بلد إفريقي يزوره بصفته رئيسا للولايات المتحدة، من باب الدعم والتحفيز، لأنها تبقى مختبرا للديمقراطية أكثر من نموذج ديمقراطي ناجز.
ريادة اقتصادية بالذهبين
يتحفظ كثيرون على اعتبار غانا منارة الديمقراطية في غرب إفريقيا بأكثر من دافع، تولت الأرقام الاقتصادية دحضها تباعا، بعدما أضحت غانا رقما صعبا في الخريطة الاقتصادية للقارة السمراء، بفضل رحلة عبور نموذجية من الفقر إلى النمو، ما جعل تجربتها، كواحدة من أسرع الدول نموا، محل إعجاب المؤسسات الدولية التي وضعها موضوع دراسة وبحث سعيا إلى تقاسم دروسها مع دول غارقة في الأزمات.
ما أكثر المؤشرات الدالة على حجم الطفرة الاقتصادية التي حققتها غانا في العقود الأخيرة، فمعدل الفقر على سبيل المثال داوم على الانخفاض عاما تلو آخر، حيث انتقل من 53 في المائة، في 1991، مع بداية تجربة الانتقال الديمقراطي إلى 21 في المائة في 2012. وحافظ المؤشر على معدل الانخفاض السنوي بواقع 1،1 في المائة، خلال العقد الأخير، وهو ما لم يحدث في أي دولة أخرى.
ويتوقع أن تستمر بلاد النمل، اسم العاصمة أكرا باللغة المحلية يعني النمل، على النهج التصاعدي ذاته، خاصة بعد كسبها رهان الذهب الأسود "النفط"، إضافة إلى الذهب الأصفر حيث تعد أول منتج في إفريقيا والسابع عالميا، بعد الظفر بثورة بترولية قبالة السواحل، باكتشافين أحدهما في 2007، والآخر في 2010، يرفعان احتياطي النفط في البلاد إلى 700 مليون برميل.
تعد هذه الاكتشافات برفع سقف التطلعات عاليا، فإفريقيا قارة المستقبل تراهن على مثل هذه التجارب للريادة عالميا، وغانا تدرك جيدا أهمية الحفاظ على المكاسب الديمقراطية قبل الاقتصادية، وكان ذلك واضحا في تصريح الرئيس الغيني الأسبق جون كوفور، "إن أداءنا جيد حتى دون النفط... ولكن بحقنة منشطة من النفط، فإننا سنحلق عاليا".