الذهب الأزرق .. البحث عن الأمن المائي يشعل الحروب
يوصف الماء بالمورد الطبيعي الوحيد الذي ليس له بديل على كوكب الأرض، ما يجعل منسوب المخاوف بشأن تزايد الصراع واندلاع الحروب حول الذهب الأزرق في ارتفاع مستمر، جراء تفاقم معضلة التغير المناخي التي ذاقت جميع دول العالم بلا استثناء طعم ويلاتها المر في الصيف (حرارة، حرائق...) أو في الشتاء (جفاف، فيضانات...)، بصرف النظر عن موقعها في الجهات الأربع للعالم.
قلق تضفي عليه جملة من المؤشرات صدقية أكبر، بدءا من كون المياه أساس كل شيء حي، لا بل عصب تحريك عجلة الاقتصاد والتجارة والابتكار، فنقصان أو انعدام المياه مرادف موضوعي لاختلال كبير في الدورة الاقتصادية برمتها، فضلا عن كوارث اجتماعية وسكانية هائلة، مرورا بالتزايد المطرد في تعداد السكان على مستوى العالم، فالإنسانية سجلت المليار الثامن على الأرض، في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، مقابل التراجع في الموارد المائية بسبب تعاقب مواسم الجفاف والاستنزاف المفرط للموارد الحالية.
ندرة المياه .. أزمة تتفاقم
معالم الأزمة بادية في الأفق، تعززها أرقام تجمع على أن الخطر قادم لا محالة، يبقى الرهان فقط بشأن أنجع السبل للتخفيف من وطأته لا غير. صحيح أن 71 في المائة من سطح كوكبنا مغطى بالمياه، لكن العذبة منها لا تتعدى 3 في المائة، حتى هذه النسبة الضئيلة غير متاحة، فجزء منها متجمد أو في جوف الأرض، بذلك يكون أقل من 2 في المائة هو المتاح فعليا للاستخدام البشري في الشرب والزراعة والصناعة وهلم جرا.
وحذرت تقارير لمنظمة الزراعة والأغذية "الفاو" من تكلفة ندرة المياه، فالطلب العالمي على المياه سيزداد بنسبة 55 في المائة في الفترة ما بين عامي 2000 و2050، ما يعني زيادة في قيمة المياه كمورد عالمي، ما جعل خبراء يتوقعون أن يتفوق الماء على النفط من حيث القيمة في بعض الأماكن. كما ينتظر أن تشهد مناطق بأكملها انخفاضا في إجمالي الناتج المحلي، بنسبة تراوح ما بين 6 و14 في المائة، بسبب تزايد الكثافة السكانية والنمو الاقتصادي المعتمد بكثرة على المياه.
ويزداد المشهد سوداوية، حين نعلم أن نحو مليار شخص في العالم لا يستطيعون الحصول على مياه صالحة للشرب اليوم، فكيف سيكون الوضع بحلول 2050، حين تتعدى البشرية سقف تسعة مليارات شخص في العالم؟ وتحدثت تقارير الأمم المتحدة عن أن الدول الواقعة بين خطي عرض 11-40 شمالا تكاد تكون متأثرة بندرة المياه السطحي، أي مياه الأنهار والبحيرات. فضلا عن حرمان 11 في المائة تقريبا من سكان العالم من الوصول إلى مصادر مياه صحية وصالحة للشرب، ما يعني مزيدا من الصراع والنزاع حول الذهب الأزرق.
تفيد المصادر التاريخية بأن أقدم نزاع مسلح وثقه المؤرخون بين الأمم حول المياه العذبة، كان حول مياه الري نهري دجلة والفرات، قبل أكثر من أربعة آلاف عام.
وفي قاعدة بيانات معهد المحيط الهادي بولاية كاليفورنيا، تغطية لأكثر من 600 صراع مرتبط بالمياه والموارد المائية في العالم. لذا اعتمدت الأمم المتحدة في تقاريرها بدءا من تسعينيات القرن الماضي "الأمن المائي" جزءا لا يتجزأ من مفهوم الأمن البشري للدول والشعوب.
المياه .. صراع قديم يتجدد
رسمت المياه قديما حدودا طبيعية بين الأمم، لكن المشهد الجيوسياسي اليوم يبدو مختلفا تماما. خاصة في ضوء خريطة المياه العالمية، حيث تفيد الأرقام أن دولتين أو أكثر تتقاسمان نحو3/5 من المياه المتدفقة من الأنهار، وذلك بواقع 263 حوضا نهريا في 145 دولة، تضم أكثر من 90 في المائة من سكان العالم، منها 30 بلدا تقع بالكامل داخل هذه الأحواض. وفي أوروبا وحدها، يوجد أكثر من 100 مستودع مائي جوفي عابر للحدود، ما يعني أن الأمن المائي لدول رهين بدول أخرى.
بلغة الأرقام، تعتمد أكثر من 60 في المائة من دول العالم بشدة على الموارد المائية النابعة من خارج أراضيها، فعلى سبيل المثال 34 في المائة من الحاجيات المائية للهند تأتيها من الخارج، وترتفع النسبة لدى جارتها باكستان إلى 76 في المائة. وحاليا، يتهدد شبح الجفاف الدول، بالنظر إلى أن جميع الأنهار الجليدية في شمال باكستان والهند ستختفي بحلول نهاية هذا القرن، إذا استمر الذوبان بالمعدل الحالي، إذ الأنهار هي المصدر الرئيس للمياه، فالقوتان النوويتان مدعوتان إلى الجلوس لطاولة الحوار بحثا عن حل لهذه المشكلة تفاقم الوضع حربا في المستقبل.
وطفا إلى السطح، أواخر أيار (مايو) الماضي، نزاع تخللته مناوشات دموية بين الطرفين، حول توزيع واستخدام المياه بين أفغانستان وإيران، في واحدة من أكثر المشكلات استعصاء على الحل بين الجارين.
ترجع أصول النزاع حول مياه نهر هلمند جنوب أفغانستان إلى أكثر من نصف قرن، حيث حاولت إيران بكل الوسائل إثبات حقها في هذه المياه، مساع طالما جوبهت من قبل الحكومات المتعاقبة في كابول بالرفض.
تبقت حالة نهر النيل المثال الأبرز عن الصراع حول المياه في العالم، فهذا المورد المائي الوحيد الذي تتشارك فيه 11 دولة إفريقية (إثيوبيا والسودان وجنوب السودان ومصر وبوروندي ورواندا والكونغو وتنزانيا وكينيا وأوغندا وإريتريا)، شكل ولا يزال يشكل مصدر صراع تولدت عنه أزمات بين دول المنبع، ولا سيما إثيوبيا، ودول المصب، وهما: مصر والسودان. وبين الولايات المتحدة والمكسيك نزاع حول نهر الكولورادو – يعبر سبع ولايات أمريكية وولايتين مكسيكيتين –، وتتقاسم زامبيا وبوتسوانا وزيمبابوي وموزمبيق مياه نهر السنغال بحذر شديد.
الأمن المائي وقود الحروب
يكاد البحث عن الأمن المائي يكون السبب وراء كل النزاعات المتوقدة في العالم اليوم، فمن المتوقع أن تؤدي سياسة بناء السدود التي تعتمدها دول عدة تأمينا لاحتياجاتها من المياه إلى أزمات وحروب. فسد النهضة الإثيوبي أجج أزمة مع مصر بشأن نهر النيل، وإعلان الحكومة الأفغانية خطة بناء سدود على مجرى المياه التي تصب في الأراضي الإيرانية. وعدت الصين السياسة ذات أولوية قصوى، إذ كشف أول مسح للموارد المائية لعام 2013 أن عدد الأنهار والمجاري المائية انخفض بأكثر من النصف على مدى العقود الستة الماضية، بعدما فقدت أكثر من 27 ألف نهر.
تحت وطأة الندرة، يتوقع أن تنفجر قضايا المياه العالقة بين أكثر من دولة في العالم، فأدنى تهديد للمياه من شأن تحول أي منطقة إلى بركان متوقد، ولا سيما تلك الأنهار التي تعبر أكثر من دولة في طريقها نحو المصب، ويزيد ضعف المرجعية الدولية بشأن تقنين المياه الأمر صعوبة، فالقوانين المتداولة بشأن استخدام المياه العذبة في العالم (قانون هلسنكي 1966) تؤسس مقتضياته على ذات القواعد، فضلا عن افتقادها إلى القوة الملزمة، فمثلا الاتفاقية الدولية الخاصة بقانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية لعام 1997 صوت عليها 103 دول فقط، فيما كانت جل الدول الممتنعة أو المعارضة عن التصويت دول نهرية.
تتجه الإنسانية نحو استعادة حروب المياه القديمة، لكن في سياق مغاير، فكل المؤشرات المعضلة المناخية تفيد بأن الأزمة آتية لا ريب فيها، ما يستدعي تعاونا وتكثيفا للجهود على الصعيد الدولي بحثا عن سبل تضمن النجاح من ويلات حرب المياه التي يصعب حقا تخيل تفاصيلها.
وتبقى تجربة سد إتايبو- الواقع على نهر البارانا على الحدود ما بين البرازيل والباراجواي ويجري في الأرجنتين ثم الأوروجواي قبل أن يصب في حوض ريو دي لاباتا- الخاضع لتسيير شركة ثنائية القومية (البرازيل - الباراجواي) مثالا للنجاح الباهر في حسن إدارة وتدبير الدول للمسألة المائية.
ختاما، نشير إلى أن إمعان النظر في الموضوع يقود إلى القول إن "قضية حروب المياه أكثر تعقيدا من كونها نظيرا ما لا يوازيها مباشرة من موارد أخرى. فمن المهم أن يتم التمييز بين أنواع الموارد والمسارات التي يمكن من خلالها أن تسهم في النزاع"، فالمياه في مقابل بقية الموارد (المعادن مثلا) غير قابلة للنهب، وهذا يعني أنها ليست موردا يمكنك حمله والسير به، فالمتر المكعب من الماء يزن نحو طن.