التقدم التكنولوجي والمعيار الحضاري

تعد الحضارات الإنسانية توليدية، وليست تيارا مستمرا، فهي النتيجة لتكيف الإنسان مع واقعه وطموحاته، ومع الصراع بينه وبين البيئة ومكونات الحياة الأخرى، فالحضارات تتوالد من رحم الأحداث، التي تواجه الإنسان، وتعيد البشرية بشكل جماعي تشكيل تجمعاتها وتوزيعها، وفقا لمواقع الحضارات الجديدة، وقد ساد هذا النمط جميع العصور، واستقطبت الحضارات البشر وأعادت تشكيل تجمعاتهم على أقطار الكرة الأرضية.
ولا شك أن الصراعات الإنسانية أو التقلبات المناخية قد لعبت دورا مهما وبارزا في هدم الحضارات وإعادة توزيعها، فمثلا حضارة سبأ انتهت مع انهيار سد مأرب، لكن البشر استطاعوا بناء حضارات أخرى، وأنهت الحرب العالمية الأولى دولا وأقامت أخرى، وبرزت الحضارة الأمريكية التي هيمنت طوال القرن الـ20 عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، فالحضارات تتوالد وليست مجرد تيار منهمر، لهذا قد تجد المتشائمين من المستقبل في أرض والمتفائلين في أرض أخرى، المتشائمون الذين يرون الحضارات وهي تأفل، خاصة إذا جاءت البيانات التاريخية في دولهم تقارن بين نمو وازدهار وبين مرحلة من التراجع الحضاري العلني، وبين من يرون حضاراتهم، وهي تبدأ مسيراتها في النمو والبناء والعزة والتموضع، وإذا كانت الحضارة التي تتراجع ترى المشكلات التي تواجهها وكأنها نهاية العالم، ترى الحضارات الناشئة تلك المشكلات فرصا لها للنهضة الشاملة، وهي تضع حلولا عملية تعجز الحضارات المتشائمة عن قبولها.
وفي الأغلب ترتكز الحضارات عموما عند تقلباتها على موضوعات تصنع الفرق بينها، فمثلا كان لظهور محرك الاحتراق الداخلي أثر بالغ في ازدهار حضارة أوروبا في القرنين الـ18 والـ19، كما كان لاكتشاف النفط أثر بالغ في الحضارة الغربية بشكل عام في القرن الـ20، واليوم نشهد مولدات حضارية جديدة، وهي الطاقة المتجددة، والذكاء الاصطناعي، وهناك مهددات حضارية جديدة وهي التغير المناخي، والحرب النووية، والأوبئة والأمراض المزمنة والشيخوخة، وأن هذه المهددات ليس جديدة على البشر، وهي أهم عوامل الهدم الحضاري إلا أن تداخلها اليوم مع المولدات الحضارية مثل الذكاء الاصطناعي قد يعجل أو يؤخر بشكل ملحوظ ظاهرة التقلب الحضاري.
فالطاقة المستجدة تلعب دورا حاسما في معالجة ظاهرة الاحتباس الحراري، وما تتسبب فيه من تقلبات مناخية، فبينما تشتد ظاهرة التغير المناخي على بعض دول العالم فتتسبب في فيضانات كارثية تهدد البنى التحتية، تنعم دول أخرى باستقرار مناخي غير معهود، وبينما تشهد دول أخرى تنامي مشكلة المياه العذبة، تجد دول أخرى في ذلك فرصا اقتصادية لمعالجة المياه والاستفادة من المياه المحلاة، فهذا التمايز الواضح في النظرة التفاؤلية والتشاؤمية للحالة الراهنة هو الذي يجعل الأمم تتفاوت في التشريعات والدعم، فبينما دول تتقوقع في محور إيقاف النمو الاقتصادي المبني على الطاقة الأحفورية، تسعى أمم أخرى لاستخدام فوائض تلك الطاقة في تسريع بناء منظومة الطاقة المتجددة، ولهذا توقعت وكالة الطاقة الدولية في كانون الأول (ديسمبر) الماضي أن تنمو "القدرة العالمية للطاقة المتجددة" بمقدار 2400 جيجا واط من 2022 إلى 2027 "وهو مقدار يعادل حجم الطاقة الكاملة للصين اليوم". كانت "هذه الزيادة الهائلة المتوقعة" أعلى 30 في المائة من توقعات الوكالة للعام السابق، كما تتوقع وكالة الطاقة الدولية الآن أن تمثل مصادر الطاقة المتجددة ما يقارب التوسع العالمي بأكمله في مجال الكهرباء.
ومع افتتاح مشروع سكاكا للطاقة الشمسية أعلن الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء أن السعودية ستصبح خلال الأعوام العشرة المقبلة مركزا عالميا للطاقة التقليدية والمتجددة وتقنياتها، وبينما تقوم جماعات المناخ بقطع الطرق مهددة حياة الناس بشكل صارخ تقوم المملكة بعقد اتفاقيات مع اليابان في نطاق الطاقة المتجددة وصناعة الهيدروجين، لهذا السبب نتفاءل بمستقبلنا وفجر حضارتنا في وقت يتأزم فيه الآخرون.
ويعد الذكاء الاصطناعي قوة دفع حضاريا اليوم، كما كان ظهور الحاسب الآلي، ومع ذلك، فإن هذه التقنية تمثل تهديدا لمستقبل حضارات وتمهيدا لبناء حضاري في مجالات أخرى، ففي دولة مثل المملكة ومع قدرات الذكاء الاصطناعي على ترجمة الكتابة المسمارية، التي يبلغ عمرها خمسة آلاف عام، فإن السعودية مقبلة على نقلة علمية كبيرة قد تعيد صياغة مفهومنا عن الحضارات وتنقلها بين الأمم، مع مدن عالمية جديدة ترتكز تماما على الذكاء الاصطناعي مثل ذا لاين وأوكساچون وغيرهما من المشاريع العملاقة السعودية، وإننا متفائلون بشأن النهضة الحضارية السعودية في وقت يخشى كثيرون من قدرات الذكاء الاصطناعي على التأثير في نمو الوظائف واستبدالها في مدن تمت صياغتها، وفقا لمعطيات القرن الماضي، وإذا كانت الأمراض الفتاكة والأوبئة قد أخرت النمو الحضاري في منطقة الجزيرة العربية لقرون، لكنها اليوم في ظل الدولة السعودية الفتية تصبح الدول الأكثر أمانا واستقرارا في هذا الجانب، وكانت تجربة انتشار فيروس كورونا دليلا لا لبس فيه على ما لدى السعودية من إمكانات وما فقدته الحضارات الأخرى من تقدم، لهذا نسير بثقة نحو القرن الـ21 مع تجربة ثرية وثقة بالنفس وتفاؤل بالإنجازات الطبية غير المسبوقة.
التفاؤل بالمستقبل أو التشاؤم مرهون بما يمتلكه الإنسان من تقدم حضاري، ورؤى تقوده نحو القمة الحضارية، في ظل قيادة تعرف الطريق جيدا وشعب طموح يشد بعضه بعضا، وفي وقت تهتز فيه القيم الإنسانية تجد السعودية تصدر التشريعات التي ترسم وتحفظ حق الكبير والصغير والعلاقات الأسرية، والمعاملات المدنية وتعالج القضايا التجارية المدنية مع قيم إسلامية راسخة، كل ذلك في ظل معايير الأمن والسلام، والتقدم التكنولوجي، ما يجعلنا نتفاءل بالقرن السعودي المقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي