التجربة الديموغرافية اليابانية

على مدى العقود الماضية، كانت التجربة اليابانية محط الأنظار، خاصة في التعليم وجودة الصناعة وتنوعها، إلى جانب المحافظة على القيم والتقاليد اليابانية.
وفي الوقت الحاضر، أصبحت التجربة الديموغرافية للمجتمع الياباني لافتة للانتباه وتستحق المتابعة، لأن التحولات الديموغرافية التي يمر بها المجتمع الياباني في الوقت الحاضر يمكن أن تعيشها المجتمعات الأخرى في المستقبل القريب.
بناء على بيانات الأمم المتحدة، شهدت اليابان تحولين ديموغرافيين في الخصوبة خلال العقود الماضية، الأول هو: انخفاض الخصوبة إلى مستوى الإحلال، أي أن متوسط الإنجاب لا يتجاوز 2.1 طفل للمرأة، وذلك بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وكان سببه -بالطبع- ظروف تلك الحرب الطاحنة.
أما الآخر، فهو: الانخفاض إلى مستويات متدنية جدا لمعدل الخصوبة الكلي تراوح ما بين 1.3 و1.4 خلال العقود الثلاثة الماضية، وهذا التحول في الخصوبة مختلف تماما عن الأول من حيث المستوى والأسباب، فيعود -بشكل أساس- إلى الانخفاض التدريجي في معدلات الزواج، فمن الملاحظ أن نسبة كبيرة من الرجال والنساء في اليابان لا يتزوجون أو لا يرغبون في الإنجاب. نعم هناك نسبة تتجاوز 10 في المائة بين النساء، وأكثر من 20 في المائة بين الرجال الذين بلغوا سن الـ50 عاما لم يتزوجوا أبدا، وهذه نسب مرتفعة نسبيا، ولها تأثيرات كبيرة في الاقتصاد والمجتمع الياباني.
التساؤل المهم، لماذا يعزفون عن الزواج؟
تشير إحصاءات الأمم المتحدة، إلى أن التأخر في الزواج أو العزوف تماما، قد ارتفع خلال الأعوام الأخيرة، ويعزى ذلك -ولو جزئيا- إلى تزايد الفرص الوظيفية للشابات مقابل انكماش الفرص أمام الشباب، ويعزز ذلك ارتفاع نسبة النساء الحاصلات على شهادات تعليم عال من 6 في المائة فقط في 1960، إلى 60 في المائة في 2010، ويفسر هذا الاتجاه استمرار التقسيم التقليدي للعمل داخل الحياة الزوجية الذي يفرض على المرأة التزامات كبيرة تجاه رعاية الأسرة والأطفال، وهي المسؤولة عن متابعة نجاحهم الدراسي.
ومن المقلق للحكومة اليابانية، أن كل محافظة من محافظات اليابان البالغ عددها 47 سجلت انخفاضا في عدد السكان في 2022، بل انخفض إجمالي عدد اليابانيين بنحو 800 ألف، أي بمعدل نمو ينخفض إلى -05 في المائة "أي بالسالب"، ما يدل على أن السياسات السكانية فشلت في الحد من انخفاض السكان، فقد سجل عدد الوفيات رقما قياسيا تجاوز 1.56 مليون مقابل 771 ألف مولود فقط في 2022، وهذه هي المرة الأولى التي ينخفض فيها عدد المواليد إلى أقل من 800 ألف منذ بداية تسجيل المواليد في اليابان، وتقابل ذلك زيادة ملحوظة في عدد المقيمين من جنسيات أخرى.
وانعكست هذه التغيرات الديموغرافية على المجتمع عموما، خاصة ارتفاع نسبة الشيخوخة، إذ تحتل أحد المراكز الأولى على مستوى العالم، فنحو نصف سكان اليابان تصل أعمارهم إلى 50 عاما، وهذه هي الأعلى على مستوى العالم تقريبا، ما أدى إلى إغلاق كثير من المدارس، والخشية من إغلاق الشركات الصغيرة التي تربو على مليون شركة عائلية تبلغ أعمار ملاكها أكثر من 70 عاما، دون وجود أحفاد لتولي شؤون تلك الشركات، وما يؤكد ذلك تزايد الإعلانات التجارية عن المكملات الغذائية لتخفيف آلام المفاصل ونحوها.
أخيرا، ينبغي التنبيه على أن المجتمعات المجاورة لليابان تمر بأوضاع ديموغرافية شبيهة، مثل: تايوان وكوريا الجنوبية. ولا يقتصر الأمر على تلك الدول، بل إن معظم دول العالم يمكن أن تواجه التحديات نفسها خلال العقود المقبلة، باستثناء الدول الإفريقية التي تشهد نموا سكانيا سريعا، وستعاني تحديات مختلفة إلى حين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي