الإنهاك البيئي يزج بالإنسان مبكرا في عصر "القلق الكبير"
أفادت منظمة الأرصاد الجوية أن الشهر الماضي "يوليو" 2023، أكثر الشهور سخونة على الإطلاق، فدرجات الحرارة المسجلة خلال موجات الحر التي اجتاحت مساحات شاسعة من العالم استثنائية، لدرجة أن العلماء واثقون بأن الأرقام القياسية تم تجاوزها. وتشير بيانات مناخية أخرى إلى أن درجات الحرارة التي سجلت "غير مسبوقة في تاريخنا في آخر بعض آلاف من الأعوام"، ما يثبت كلام الأمين العام للأمم المتحدة حين تحدث عن صيف قاس، "انتهى عصر الاحتباس الحراري. حل عصر الغليان العالمي".
وقد سبق للرجل أن حذر في كلمته بمناسبة افتتاح مؤتمر الأطراف حول المناخ كوب 27 في مصر، في نوفمبر 2022، من خطورة ما يلوح في أفق البشرية القريب، "إن البشرية أمام خيار التعاون أو الهلاك، فإما يكون عهدا على التضامن المناخي وإما عهدا على الانتحار الجماعي. نحن نسلك الطريق السريع نحو الجهنم المناخي، ونواصل الضغط على دواسة السرعة".
واقعة تلو الأخرى، تتوالى الشواهد من مختلف بقاع العالم لتؤكد بأن المناخ لم يعد تحت السيطرة، فالتغيير الشديد للتغير المناخي يتماشى مع التوقعات والتحذيرات المتكررة من قبل الخبراء، لكن المفاجأة الكبرى كانت في سرعة التغيير التي زجت بالإنسان مبكرا في عصر "القلق الكبير". فالإنسان المعاصر، بحسب مؤلف "تعلم الموت من الأنثروبوسين"، يسير بهدوء وتحضر نحو موته المستقبلي باستعداد أقل للكارثة، وتوقعات أكبر للاقتراب من النهاية، بما كسبت يداه.
في الأعوام الأخيرة، انقلبت قضايا المناخ، من مسائل هامشية تهم الخبراء والمختصين، ديدنهم التحذير من سيناريوهات متشائمة بشأن مستقبل البشرية، إلى مشكلة من صميم واقع الحياة اليومية، تفرض نفسها على رأس أولويات الأجندة السياسة، وتدفع نحو بلورة منظور جديد حيال النشاط الاقتصادي. خاصة مع تصاعد التهديدات المناخية، وتواتر الكوارث الطبيعية، بشكل غير مسبوق في التاريخ، في ضوء تزايد الاشتباك بين مجال الاقتصاد وعالم البيئة.
يستعين المشككون بالتاريخ دفاعا عن أطروحتهم، فالتغيرات المناخية قديمة قدم الوجود البشري على وجه الأرض، إذ كانت السبب وراء عدد من التوترات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أفضت في النهاية، وغير ما مرة، إلى انهيار الإمبراطوريات وتمزيق الممالك، فضلا عن تهجير القوميات وتفكيك القبائل... فالجفاف على سبيل المثال حرك المغول، شعب من شمال شرق آسيا، والقوط، قبائل جرمانية في أقصى الشمال الأوروبي، نحو أوروبا الغربية.
في كتب التاريخ وقائع عديدة تؤكد صدق ما سبق، لكن هذه السرديات تمثل نصف الحقيقة فقط، فتلك الظواهر كانت تحدث بشكل طبيعي، ولم تكن مرعبة مثلما هو الحال اليوم. وتتيح الفوارق الزمنية الفاصلة بينها إمكانية لتجاوز أثار وتداعيات تلك الكوارث الطبيعية، إما بفعل التدخل البشري (غرس الأشجار، بناء السدود، إصلاح الأراضي، تنويع الزراعات...) وإما فقط ترك المجال للطبيعة قصد التدخل والتصحيح الذاتي.
عكس ما يجري حاليا، إذ بات الإجماع قائما لجهة اعتبار التغير المناخي صنيعة بشرية خالصة، فالأرقام تفيد بأن 95 في المائة من الاضطرابات المناخية ناتجة عن النشاط البشري. ما يعني تصديقا للأبحاث التي تؤكد بشكل قطعي قيام علاقة وطيدة بين الكوارث المناخية والنشاط الرأسمالي، عمرها ما يزيد على قرنين، لدرجة أصبح معها "الطقس المتطرف" الناتج عن التغير المناخي هو "الوضع الطبيعي الجديد" الذي يشكل تهديدا وجوديا ليس للإنسان فقط، وإنما لملايين الكائنات الحية الأخرى.
وفي السياق ذاته، تفيد دراسة لجامعة ستانفورد (2019) بأن التغيرات المناخية تسبب في نشوب صراعات مسلحة عالمية، بنسب تراوح ما بين 3 و20 في المائة خلال العقد الماضي. وتتوقع الدراسة أن تصل النسبة إلى 26 في المائة مع ارتفاع درجة حرارة الأرض.
ويدق التقرير التقييمي السادس للفريق الحكومي المعني بتغير المناخ، ناقوس الخطر بتأكيده أن الاحترار العالمي يعني مضاعفة خطر عبور العتبة البيولوجية، أي عتبة البقاء على الحياة. فعندما تبلغ الحرارة 45 درجة مئوية، فيما تصل رطوبة الغلاف الجوي إلى 75 في المائة، لا يمكن لجسم الإنسان التحمل والبقاء على قيد الحياة لأكثر من ست ساعات متواصلة. وهذا، مع الأسف الشديد، ما ينتظر أجزاء كثيرة من القارتين الإفريقية والآسيوية.
يوما بعد آخر، يتلاشى مفهوم الفصول الأربعة لمصلحة تثبيت "المناخ المتطرف"، بفعل سعي الإنسان الدائم نحو مزيد من الرفاهية، ولو كان ذلك على حساب توازن النظام البيئي، ومستقبل الجماعية البشرية. فالإنسان الاستهلاكي في عالم اليوم لا يرى أبعد من أنفه، لذلك لا يتردد في التلكؤ، أو حتى السخرية، عند أي حديث أو دعوى لتغيير أنماط سلوكه الاستهلاكية.
خذ على سبيل المثال الاستهجان والسخرية اللذين لقيهما مقترح وينفرد كريتشمان، رئيس وزراء ولاية بادن فورتمبيرغ في الجنوب الغربي للجمهورية الألمانية، حين سرد تجربته نموذجا للاستهلاك الرشيد للطاقة، فطالب من الألمان إحياء عادات أوروبية قديمة، من قبيل مسح الأجسام بمنشفة مبللة مع الصابون بدلا من تبذير المياه في الاستحمام. كما ذكر بتوافره على لوح شمسي ضخم على سقف بيته لتسخين المياه، منذ ربع قرن، فضلا عن قيامه بتدفئة غرفة واحدة فقط في المنزل.
نصائح غريبة بالنسبة إلى كثيرين، فهي أبعد ما تكون عن روح العصر القائمة على الرفاهية أولا وأخيرا، وعلى جميع الأصعدة والمستويات، فالاستهلاك صار سمة من سمات الحياة المعاصرة، دون أدنى اعتبار لحماية البيئة أو سلامة المناخ أو إنقاذ كوكب الأرض أو فقط التفكير في المستقبل المظلم والغامض التي يتهدد الكائن الحي في المقبل من الأعوام.
كتب على أبناء هذا الزمان أن ينالوا شرف مواجهة كارثة غير مسبوقة في تاريخ الجنس البشري من قبل، إنها معضلة التغير المناخي جراء ما جنت أيديهم وأيدي آبائهم وأجدادهم طوال عقود من الزمن، فهل ينجحون في وقف سباق الهرولة نحو القدر المحتوم بأرجلهم مثبتين لأنفسهم بذلك، وعن جدارة واستحقاق، صفة "الإنسان العاقل"، أم يمعنون في الضغط على الدواسة لزيادة سرعة الانزلاق نحو الهاوية والمجهول، مسقطين بذلك صفة "العقل" عن هؤلاء لمصلحة "الجنون"، فكما ورد في الأثر: "إذا غاب العقل لا حدود لحماقة البشر".