أوروبا مظلمة .. كيف تتعايش القارة العجوز مع أسوأ أيامها؟
يهرع مرتادو شارع الشانزليزيه إلى أرقى المقاهي والمطاعم ومراكز الموضة، تحديدا حيث تتوافر خدمة التكييف التي تقيهم حر صيف غير مسبوق، يتناولون القهوة الباردة والمرطبات الموسمية خلال الظهيرة. بينما وعلى بعد 28 دقيقة سيرا يقف برج إيفل الشهير، هناك حيث تبدو رغبة مهندسي البرج مختلفة، إذ يتمنون امتداد الفصل الحار لوقت أكبر فحين تهب الرياح الباردة يحتاج العملاق الباريسي إلى قدر كبير من الطاقة. وبين الشارع والبرج يقع قصر الإليزيه حيث يطل الرجل الكبير من الشرفة التي شاهد من خلالها الأنوار مطفأة الشتاء الماضي.
تبدو أسئلة الرئيس الفرنسي ماكرون، هي نفسها الأسئلة التي يرددها قادة أوروبا على مدار الأسابيع الماضية، بداية من المستشار الألماني أولاف شولتس، ووصولا إلى رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، ورغم تباين حدة الأزمة من دولة إلى أخرى، لكن الجميع يتفق أن القارة العجوز تعيش أسوأ أعوامها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك بعد ما حدث في النيجر أواخر يوليو الماضي، من انقلاب عسكري قاده عبدالرحمن تشياني رئيس وحدة الحرس الرئاسي ليطيح بالرئيس المنتخب محمد بازوم، ورغم غرابة تعلق مصير أوروبا بدولة إفريقية صغيرة وفقيرة، لكن هذا ما تؤكده أرقام الاتحاد الأوروبي نفسه، إذ إن النيجر مورد أساسي للدول الأوروبية بعنصر اليورانيوم، المسؤول عن تشغيل محطات الطاقة النووية والدفع البحري وعلاج السرطان وتوليد الكهرباء.
ولتحديد حجم الكارثة التي تتعرض لها أوروبا الآن، يكفي القول إن يورانيوم النيجر الذي يطلق عليه أيضا "الكعك الأصفر" كان مسؤولا في 2022، عن توليد 25 في المائة من كهرباء أوروبا، و35 في المائة من إنارة فرنسا التي كانت تحتل تلك الدولة الإفريقية منذ عدة قرون قبل أن تنال النيجر استقلالها في 1960، ومن وقتها ظلت باريس فاعلة أيضا سواء من خلال الرعاية الدولية أو الشركات العملاقة مثل "أورانو" التي تعمل في مجال تعدين اليورانيوم شمال النيجر والتي أعلنت حتى بعد وقوع الانقلاب أنه لن توقف عملها.
أمام تلك المعطيات، اتخذ ماكرون قراره بإدانة الانقلاب العسكري من البداية، وسار على النهج نفسه قادة أوروبيون آخرون رافضون أي محاولة لتغيير الحكم بالقوة، وهو ما تلقفه قائد الانقلاب عبدالرحمن تشياني بإصدار قرار تعليق اتفاقيات تصدير الذهب واليورانيوم إلى فرنسا، بل وهاجم متظاهرون السفارة الفرنسية في العاصمة النيجيرية نيامي، لكون السفارة رمزا للمحتل، وهو تصرف يراه عدة مراقبين، مناورة من الانقلابيين للحصول على اعتراف دولي بشرعيتهم.
وبعيدا عن تلك المناوشات التي ستأخذ مدى أطول في ظل المعطيات الحالية، كان يمكن تحمل تلك الأحداث لو لم تكن النيجر مسؤولة عن توليد الكهرباء أو لم تكن أوروبا نفسها تعاني نقصا في إمدادات الطاقة، فحتى 2021 كانت القارة العجوز تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 45 في المائة، وفي مقدمتهم ألمانيا بنسبة 50 في المائة من احتياجتها، تليها إيطاليا وثم فرنسا وبدرجة أقل بريطانيا، ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022، وما تبعها من معارك وحصار اقتصادي ووقف معاملات تجارية مع موسكو، قررت الأخيرة الرد بوقف أي إمدادات للغاز ما جعل الشتاء الماضي ضمن الأسوأ في تاريخ أوروبا، ما اضطر الأوروبيين إلى ترشيد الطاقة أثناء الصقيع الأبيض، إذ أطفأوا مدافئهم وأقلعوا عن الاستحمام لساعات طويلة توفيرا للكهرباء.
ولأن الحرب طالت، كان على أوروبا البحث عن البدائل سواء من خلال خفض الاستهلاك اليومي أو البحث عن مصادر طاقة بديلة، وهو ما كلفها بحسب شبكة بلومبيرج نحو تريليون يورو خلال 2022، فألمانيا وبريطانيا اتجهتا إلى النرويج وهولندا كمنافذ يمكن الحصول على الطاقة منها، بجانب سعي برلين إلى شراء خمس محطات عائمة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال من قطر والولايات المتحدة، أما فرنسا فاتجهت إلى البدائل كتعزيز الطاقة المتجددة واتباع سياسة الترشيد التي أقرها الاتحاد الأوروبي العام الماضي، والتي أوصى فيها بتطبيق سياسة تقشفية توفر 15 في المائة من الغاز المستهلك كل عام، ما استجاب له الناس بشراء الحطب لإشعال النيران في بيوتهم، في مشهد لا يذكرنا سوى بالعصور الوسطى.
نجحت تلك الإجراءات جزئيا في النجاة من موسم شتاء لم يستمر صقيعه طويلا، وأسهمت في حل الأزمة أيضا المستودعات الأوروبية التي كانت تمتلئ بأكثر من 85 في المائة من الغاز قبل 2022، وكان الأمل الوحيد في فصل الصيف الجاري، سواء بانتهاء الحرب الروسية الأوكرانية فيه، أو على الأقل تأمين غاز غير روسي خلال الشتاء المقبل، لكن الحرب لم تنته ويبدو أنها ستستمر طويلا، وأعلنت ألمانيا صراحة أنه مستحيل تعويض الغاز الروسي حتى 2026، وفي وسط ذلك تحدث أزمة النيجر التي ناصب قادتها العداء مع أوروبا من أول لحظة، فتصبح محطات الكهرباء نفسها في خطر ويضحي الاعتماد على بدائل للغاز مثل الطاقة النووية أمرا مستحيلا في ظل شح اليورانيوم، وهنا يأتي السؤال، هل يستخدم ماكرون قاعدته العسكرية في نيامي النيجرية، ويمنح الضوء الأخضر لـ1500 جندي فرنسي ليقضوا على الانقلاب وينقذوا أوروبا جميعها من الظلام؟، أم يكتفي قادة القارة العجوز بالإدانات التي سرعان ما ستتحول إلى نصائح لترشيد الطاقة، ولكن تلك المرة لن تكون استخدام المناشف بدلا من الاغتسال كما طالب فينفريد كرتشمان رئيس وزراء ولاية بادن فورتمبيرغ الألمانية الشتاء الماضي، بل تصل إلى التعايش مع الظلام نفسه!