هيرشمان .. أحد رواد الاقتصاد التنموي

هناك عدد من الاقتصاديين وآخرون في العلوم الاجتماعية غير معروفين للعامة، لكن مساهماتهم الفكرية والتجريبية مؤثرة، وفي الأغلب لم تعط حقها. أحد هؤلاء الاقتصادي الألماني ألبرت هيرشمان. ولد ألبرت في برلين في 1915 لعائلة يهودية ميسورة الحال. تميز بطرح مستقل اتسم بالتركيز على تصرفات البشر الفردية والجماعية بعيدا عن الإسقاط التنظيري والأيديولوجي الذي ساد المرحلة. نقطة الانطلاق عنده كانت السؤال البديهي: لماذا تتقدم مجتمعات اقتصاديا وتتخلف أخرى؟ تنقل للدراسة من جامعة السوربون في باريس، ثم كلية لندن للاقتصاد، إلى أن حصل على الدكتوراه من جامعة تريست الإيطالية في 1938. قبل حصوله على الدكتوراه، شارك لمدة قصيرة في الحرب الأهلية الإسبانية، ثم مع المقاومة الفرنسية في أثناء الاحتلال النازي. انتقل للتدريس في جامعة كاليفورنيا بيركلي في 1943، ثم انتقل إلى الجيش الأمريكي وجهاز الاستخبارات ليصبح مترجما في محاكمة جنرالات ألمانيا. تنقل بعد الحرب بين جامعات ييل وهارفارد وكولومبيا وبرنستون من 1956 إلى وفاته.
لن أستطيع إعطاء أفكار هيرشمان حقها في عمود، ولذلك سأركز على ثلاث أفكار:
الأولى، عبر عنها في كتابه "استراتيجية التنمية الاقتصادية"، إذ صب اهتمامه على الحاجة إلى نمو اقتصادي "غير متوازن". أهم دفاع ساقه عن هذه الفكرة أن الدول النامية تفتقد الكفاءات القادرة على القرار الأمثل في كل النواحي، لذلك كان ضد فكرة التنمية الشاملة لكل القطاعات، لأنها ستوزع مواهب وقدرات قيادية وإدارية قليلة، وبالتالي تقصير الكل وتضارب البرامج.
كما أن النمو غير المتوازن يفتح فرصة لرفع الطموح وإضعاف المشكك، وتسويق الفكرة للعامة سياسيا. ذكر أن الترابط الاقتصادي يبدأ من نجاح قطاع، وبالتالي الربط التدريجي والتقليد ورفع المستوى مع القطاعات والشركات ذات العلاقة. هذا الطرح كان مختلفا عن السائد، وجادل بأن اليد الخفية تحتاج إلى تمكين، ودلل على ذلك من تجربة البيرو، وكيف حدث تطور اقتصادي واجتماعي حين تم التركيز على أفكار وتجارب صغيرة.
الثانية، من خلال كتابه "في العواطف والمصالح ـ دفاع عن الرأسمالية قبل انتصارها" يراجع تطور الأفكار بداية في القرنين الـ17 والـ18 حين نادى مفكرو المرحلة "بالجشع" كفكرة للسعي للمصلحة، في محاولة لإعادة التوازن مع الممارسات التدميرية التي جاءت كنتيجة للسياسة الشمولية. دلل على ذلك من المفكرين الرواد كآدم سميث وستيوارت مل الأب ومنتقيو، حيث روج هؤلاء لتوظيف مصطلحات جديدة، فانتقل الاقتصاد من توظيف الشر والطمع إلى المصلحة والميزة النسبية في مسلسل تطور الرأسمالية.
انتقد النظام الشيوعي في تركيزه على الحالة النفعية للكل بالتساوي وضد الفكر الاقتصادي التقليدي الذي يجعل هدف الإنسان الاقتصادي تعظيم المنفعة الحدية.
الثالثة، إن عملية الإصلاح دائما صعبة ومعقدة وعالية المخاطر، فيقول: "الإصلاح في الأغلب ليس عملية سلسة ممكن أن تدار بمساعدة وخبرة أجنبية". عمليات الإصلاح صعبة لأنها عادة تتطلب إعادة ترتيب الأولويات المجتمعية، وبالتالي إعادة تراتبية الأفراد والشركات والقطاعات وتغيير طبيعة أدوار المؤسسات.
محاولة الإصلاح تصدم برغبات الناس مع الحاجة إلى التضحية المستقبلية، لذلك دائما هناك خصوم، فمثلا هناك عادة صعوبة في التواصل بين العامة والحكومات في الدول النامية، لذلك يأتي أغلب الحلول كمحاولة للتعامل معها دون فهم عميق من خلال نموذج يحظى بإجماع.
عاش ألبرت هيرشمان حياة عملية وعلمية حافلة تخللتها خدمات عسكرية وبحثية تجريبية لتحديات التنمية في أمريكا الجنوبية.
في الجزء الأول من مؤلفاته ركز على التنمية الاقتصادية، بينما في الجزء الأخير ركز على العلوم الاجتماعية، وأنماط العلاقات بين الفئات المختلفة. مرد هذا التحول في الأغلب كان تحسره على تعثر أغلب البرامج والخطط التنموية.
ألف كتبا عدة في الاقتصاد السياسي، ونشر أبحاثا عديدة.
قابل مهاجرة أوروبية في بداية الأربعينيات في أمريكا، وتزوجها وتوفي في نيوجيرسي في 2012، بعد وفاة زوجته بأشهر قليلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي