أزمة التجنيد في أمريكا .. تهديد محلي للأمن القومي
تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية أحد أقدم وأقوى الجيوش الحديثة في العالم، فالتعداد الكامل للقوات الأمريكية، بكل فروعها، القوات البرية والبحرية والجوية ومشاة البحرية وحرس السواحل، بما في ذلك الفاعلة والاحتياط والمدنيين، يصل إلى 2877620 جنديا أمريكيا، ضمنهم 845 ألف من قوات الاحتياط. يراوح توزيعهم ما بين الداخل دفاعا عن حدود الأراضي، وخارج الحدود في نحو 800 قاعدة عسكرية، تنتشر في 177 دولة تقريبا، مع توزيع متباين، تحتل فيه اليابان الصدارة بأكثر من 40 ألف جندي أمريكي فوق ترابها.
لوجستيكيا، يتوافر الجيش على 13233 طائرة حربية، تتوزع ما بين الطائرات المقاتلة (1956) والطائرات الهجومية (950) وطائرات الشحن العسكري، إلى جانب 5436 مروحية عسكرية، وأزيد من 900 مروحية هجومية. فضلا عن 6100 دبابة، وأكثر من 40 ألف مدرعة، و1365 راجمة صواريخ. ويملك أسطول البحرية الأمريكية نحو 500 قطعة بحرية، منها 11 حاملة طائرات و92 مدمرة و68 غواصة وثمان كاسحات ألغام. يضاف لذلك 3750 رأسا نوويا، وميزانية قياسية، برسم العام الجاري، تعدت 850 مليار دولار.
تبقى هذه الأرقام والمعطيات بلا معنى في ظل العجز البين للقوات الأمريكية عن تلبية احتياجاته من المجندين، فعدد قليل من الشباب الأمريكي يريدون الخدمة أو قادرون على أدائها، ما مثل، بحسب مسؤول الجنود العسكريين، "أكبر تحد للجيش الأمريكي منذ عام 1973". وعده آخرون أزمة حادة بالنسبة للأمن القومي الأمريكي، فذلك يعني بكل بساطة عدم القدرة على القيام بالمهام اللازمة في الحروب المستقبلية.
أزمة التجنيد في أمريكا
يفشل الجيش الأمريكي، للعام الثاني على التوالي، في تحقيق معدلات التجنيد المحددة في نحو 65 ألف جندي في العام. كما جاء على لسان كريستين وورموث وزيرة الدفاع الأمريكية، التي عدت أن الولايات المتحدة ستحتاج إلى وقت طويل لحل مشكلة نقص المجندين، رغم قرار خفض أعداد المجندين العام الماضي، فخلال الربع الأخير من العام الماضي لم يتمكن الجيش من تحقيق هدف التجنيد المسطر في موازنته بنسبة 25 في المائة، ما أدى إلى نقص ما يقرب من 20 ألف جندي.
يكاد سلاح الجو والبحرية يحققان أهدافهما في التجنيد لعام 2022، بفضل الاستعانة بما يسمى بمجموعات "الدخول المتأخر" (لائحة الانتظار)، ممن يحتفظ بهم عادة في حال تأهب وانتظار لوقت لاحق. ما يفيد بأن الفرعين، سلاح الجو والبحر، على وشك الالتحاق بأزمة التجنيد التي تهز أركان الجيش الأمريكي في المقبل من الأعوام. وذلك تأكيدا فقط لما راج في جلسة استماع لقادة الجيش والبحرية والقوات الجوية مع لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب الأمريكي.
بدأت مهنة الجندية، التي انطلقت طواعية عام 1973، في الولايات المتحدة تفقد بريقها، بعد توظيف التجنيد الإجباري في ستة نزاعات متفرقة، وخلال فترة السلم بموجب قانون التدريب والخدمة العسكرية الإجبارية (1940). تعهد المرشح الرئاسي ريتشارد نيكسون عام 1969، باعتماد الجيش على المتطوعين بدل نظام الإجبارية. حل سحري صاغه مارتن أندرسون مستشار الرئيس أسهم إلى حد كبير في الحيلولة دون إعادة انتخاب الرئيس دون جونسون لولاية ثانية.
بعد نصف قرن على قرار الرئيس نيكسون، تعود أزمة التجنيد إلى الواجهة في الولايات المتحدة، ما يحتم على أي مرشح رئاسي مقبل تقديم حلول عملية لتجاوزها، فلا محالة ستصبح ضمن قائمة الأوراق الرابحة في معركة الانتخابات المقبلة. صحيح أن التحدي في الحاضر معاكس لما كان عليه في الماضي، مع اختلاف في العوامل والأسباب وراء هذه الأزمة.
أسباب الأزمة
أفاد تقرير لمؤسسة هيريتيج (Heritage) البحثية أن الجيش الأمريكي اضطر إلى خفض عديده، بعد فشله في العثور على متطوعين مستوفين للشروط والمواصفات التي تؤهلهم للالتحاق بصفوفه. وذكرت صحيفة وول ستريت جورنال من جهتها، أن أقل من 1 /4 من الأمريكيين بين 17 و24 عاما فقط يمكنهم تلبية متطلبات الخدمة العسكرية، فضلا عن فشل عديد من هؤلاء "المرشحين" في امتحانات القبول، فحتى عندما قرر الجيش عقد "دورة تحضيرية لجنود المستقبل" صيف 2022، لتدريب 12 ألف متقدم، أخفق ما يفوق خمسة آلاف مرشح في استجماع العناصر اللازمة لاجتياز اختبارات الولوج.
تتعدد الأسباب وراء فشل الجيش الأمريكي في العثور على متطوعين أكفاء لتلبية احتياجاته السنوية، وفي مقدمتها المعطى الديموغرافي، فلأول مرة، منذ 15 عاما، تنخفض النسبة المئوية لمن تراوح أعمارهم ما بين 19 و25 إلى 23 في المائة مسجلة أدنى مستوياتها. فضلا عن عجز شريحة كبيرة من الشباب الأمريكي على تلبية معايير الالتحاق بالجندية، مثل: عدم الحصول على الثانوية العامة، أو عدم بلوغ حد معين من الدرجات المحرزة في الاختبارات، أو عدم التوافر على سجل جنائي نظيف (تعاطي المخدرات، التعرض للاعتقال...). ويمثل المشكل الصحي أكبر المعوقات أمام الشباب الأمريكي، فنحو 22 في المائة من الشباب (12-19 عاما) يعانون السمنة المفرطة، ونسبة مماثلة تأخذ أدوية للعلاج النفسي. فيما لم تتعد نسبة من حضروا حصة واحدة للتربية البدنية في الأسبوع 51 في المائة من طلاب المدارس الثانوية.
ويبقى تراجع الثقة في الجيش أكبر التحديات، فأحدث دراسة أجرتها مؤسسة "ريجان للدفاع الوطني" أكدت وجود انخفاض حاد في ثقة المواطنين بالجيش الأمريكي، خاصة بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عام 2021. فقد تدنى مستوى الثقة من 70 في المائة عام 2017 إلى حدود 48 في المائة عام 2022. وكيف لا و1/2 من الشباب الأمريكي لم يتعرف على أكبر أربعة فروع للجيش الأمريكي، لماذا إذن سيقرر هؤلاء الانضمام إلى مؤسسة لا يعرفون عنها أي شيء؟.
يعد التراجع المستمر للامتيازات في الجيش بدوره مشكلة، فالأجور المقدمة في الوظائف المدنية وزيادة الشركات للحوافز بحثا عن أفضل المواهب لشغل المناصب، دفعت فئة من الشباب إلى إسقاط الجندية من دائرة الاهتمام. خاصة مع الطبيعة الصارمة لنمط العيش في الجندية من قبيل: الاستيقاظ المبكر وفراق العائلة ومخاطر العمل وكثرة التحرك، فضلا عن ارتفاع نسبة تخوف الشباب من احتمال التعرض للتحرش الجنسي أو الاعتداء الجنسي، فضلا عن تزايد العنصرية بوصول متعصبين من البيض لرتب عسكرية عليا.
ما يحدث داخل مؤسسة الجيش من أزمة في التجنيد، يعاكس طموح الإدارة الأمريكية الرامي إلى تقوية أو حتى إنشاء قواعد عسكرية جديدة بجنوب شرق آسيا لمواجهة التمدد الصيني عسكريا في بحر الصين الجنوبي، وكذا وقف الزحف الروسي باتجاه أوروبا الشرقية.
باختصار، ما تواجه الولايات المتحدة يرتقي إلى تهديد للأمن القومي الأمريكي، كما جاء في مقال لعمدة مدينة نيويورك، مايكل بلومبرج حين أكد أن "القضاء على التهديدات للنظام العالمي يتطلب جيشا أمريكيا لا يعلى عليه".