في عالم متعدد الأقطاب .. الحرب الباردة مختلفة
خلافا لما قد تبدو عليه في نظر كثيرين، خاصة في الولايات المتحدة، فإن الحرب الباردة الجديدة تبدو كأنها لا تستند إلى منطق الاستقطاب القديم، بل إلى منطق جديد من التجزئة. وإذا حكمنا من خلال نمو مجموعة بريكس التي تتألف من الاقتصادات الناشئة الكبرى، فلا يوجد نقص في الدول التي تجد هذا المنطق الجديد مغريا. بحسب مارك ليونارد، مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، هو مؤلف كتاب "عصر عدم السلام: كيف يسبب الاتصال الصراع" (مطبعة بانتام، 2021).
اجتمع الرئيس الأمريكي جو بايدن، أخيرا، مع زعماء حليفتي اليابان وكوريا الجنوبية في كامب ديفيد، لمناقشة كيفية احتواء الصين ومواجهة نفوذ روسيا، على سبيل المثال في منطقة الساحل في إفريقيا، التي شهدت أخيرا سلسلة من الانقلابات. من ناحية أخرى، اجتمع زعماء دول بريكس -البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب إفريقيا- في جوهانسبرج لانتقاد هيمنة الغرب على المؤسسات الدولية التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية. وكان ذلك كافيا لإعطاء مؤرخي الحرب الباردة تجربة سابقة.
فالعدو الرئيس للغرب اليوم هو الصين، وليس الاتحاد السوفياتي، ومجموعة بريكس ليست حلف وارسو. لكن مع دخول العالم فترة من عدم اليقين في أعقاب زوال نظام ما بعد الحرب الباردة، فإن أوجه التشابه كافية لإقناع كثيرين بالتحول إلى نماذج مفاهيمية ما قبل 1989 للحصول على نظرة ثاقبة لما قد يأتي بعد ذلك. وهذا يشمل الولايات المتحدة والصين، على الرغم من أن كلا منهما يراهن على نموذج مختلف.
بين نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط جدار برلين، كانت القوتان الرئيستان اللتان تحددان النظام الدولي هما الصراع الأيديولوجي، الذي قسم العالم إلى معسكرين، والسعي إلى الاستقلال، الذي أدى إلى انتشار الدول، من 50 في 1945 إلى أكثر من 150 في 1989 - 1991. وبينما تفاعلت القوتان، كان الصراع الأيديولوجي هو المهيمن: فكثيرا ما تحولت النضالات من أجل الاستقلال إلى حروب بالوكالة، واضطرت الدول إما إلى الانضمام إلى كتلة وإما تعريف نفسها من خلال "عدم الانحياز".
ويبدو أن الولايات المتحدة تعتقد أن ديناميكية مماثلة ستهيمن هذه المرة. وفي مواجهة أول منافس لها منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، سعت الولايات المتحدة إلى حشد حلفائها خلف استراتيجية "الفصل" و"إزالة المخاطر" ـ وهي في الأساس نسخة اقتصادية من سياسة الاحتواء التي انتهجتها أثناء الحرب الباردة.
وفي حين تتوقع الولايات المتحدة حربا باردة ثانية، التي تتشكل في المقام الأول بفعل الاستقطاب الأيديولوجي، يبدو أن الصين تراهن على التفتت العالمي. صحيح أنها حاولت أن تقدم للدول غير الغربية بديلا للمؤسسات التي يهيمن عليها الغرب، مثل مجموعة السبع أو صندوق النقد الدولي. لكن من وجهة نظر الصين، فإن السعي إلى تحقيق السيادة والاستقلال لا يتوافق جوهريا مع تشكيل كتل على طراز الحرب الباردة.
وبدلا من ذلك، تتوقع الصين عالما متعدد الأقطاب. وفي حين أن الصين غير قادرة على الفوز في معركة ضد الكتلة التي تقودها الولايات المتحدة، فإن الرئيس شي جين بينج، يبدو مقتنعا بأنها قادرة على أخذ مكانها كقوة عظمى في نظام عالمي مجزأ. حتى أقرب حلفاء أمريكا ليسوا بمأمن من الاتجاه نحو التفتت، على الرغم من الجهود الحثيثة التي يبذلها زعماء الولايات المتحدة. ولنتأمل هنا قمة كامب ديفيد الأخيرة. ورغم أن بعض وسائل الإعلام سارعت إلى إعلان "حرب باردة جديدة"، إلا أن اهتمامات المشاركين تباينت في جوانب عدة.
ويظل التركيز الرئيس لكوريا الجنوبية على كوريا الشمالية، وكانت اتفاقيات تبادل المعلومات الاستخبارية والمشاورات النووية التي أعلنت بعد القمة تتعلق بالإشارة إلى عزمها على التصدي لنظام الدكتاتور الكوري الشمالي كيم جونغ أون، بقدر ما كانت تتعلق بمواجهة الصين. واليابان، من جانبها، حريصة على تجنب التصعيد الاستراتيجي بشأن تايوان ـ وهو التطور الذي من شأنه أن يهدد نموذجها الاقتصادي، الذي يعتمد بشكل كبير على التجارة مع الصين (بما في ذلك التكنولوجيا المرتبطة بأشباه الموصلات). وكل من كوريا الجنوبية واليابان غير راضيتين عن الحماسة التي تلاحق بها أمريكا استراتيجية التخلص من الأخطار.
أما الوضع في منطقة الساحل، فهو يحمل كل سمات المواجهة الكلاسيكية بالوكالة في الحرب الباردة. ومنذ استسلام بوركينا فاسو وغينيا ومالي للانقلابات العسكرية، اعتمدت الولايات المتحدة وفرنسا على حكومة النيجر بوصفها المعقل الأخير للدعم الغربي في المنطقة. في عهد الراحل يفغيني بريغوزين، اكتسبت مجموعة فاغنر التابعة للجيش الروسي نفوذا كبيرا على حكم مالي، وأدارت عمليا جمهورية إفريقيا الوسطى. وآخر ما تريده الولايات المتحدة وفرنسا هو أن تحصل فاغنر على موطئ قدم آخر في المنطقة. لكن الآن بعد أن أطاحت المؤسسة العسكرية بحكومة النيجر أيضا، تباينت ردود الفعل الأمريكية والفرنسية بشكل حاد، الأمر الذي سمح لحكام البلاد الجدد بالحصول على كعكتهم والتهامها. وطلب المجلس العسكري مساعدة فاغنر لدرء التهديد بالتدخل، لكنه يبدو مستعدا، على الأقل في الوقت الحالي، للسماح للولايات المتحدة بمواصلة تشغيل قواعد الطائرات دون طيار في البلاد.
ولعل المفاجأة الأكبر في الأسبوع الماضي، كانت إعلان مجموعة بريكس دعوة ست دول -الأرجنتين، مصر، إثيوبيا، إيران، السعودية، والإمارات- لتصبح أعضاء كاملي العضوية بحلول بداية العام المقبل.
إن الانضمام إلى مجموعة بريكس يعمل على زيادة حرية العمل المتاحة للدول ـ على سبيل المثال، من خلال زيادة القدرة على الوصول إلى مصادر بديلة للتمويل، أو في نهاية المطاف توفير بديل حقيقي للدولار الأمريكي للتجارة والاستثمار والاحتياطيات. إن العالم الذي لا تعتمد فيه الدول على الغرب، لكنها حرة في استكشاف خيارات أخرى، يخدم مصالح الصين بشكل أفضل بكثير من أي تحالف أضيق وأكثر ولاء مؤيدا للصين.
والصورة التي تظهر الآن هي عالم حيث تفتقر القوى العظمى إلى القدر الكافي من النفوذ الاقتصادي أو العسكري أو الأيديولوجي لإجبار بقية العالم -خاصة "القوى المتوسطة" متزايدة الثقة- على الانحياز إلى أحد الجانبين. ومن كوريا الجنوبية إلى النيجر إلى الأعضاء الجدد في مجموعة بريكس، تستطيع الدول أن تتحمل تكاليف تعزيز أهدافها ومصالحها الخاصة، بدلا من التعهد بالولاء للقوى العظمى.
وخلافا لما قد تبدو عليه في نظر كثيرين، خاصة في الولايات المتحدة، فإن الحرب الباردة الجديدة تبدو كأنها لا تستند إلى منطق الاستقطاب القديم، بل إلى منطق جديد من التجزئة. وإذا حكمنا من خلال نمو مجموعة بريكس، فسيتبين لنا أن الدول التي تجد هذا المنطق الجديد مغريا كثيرة.