إفريقيا .. الجوع يهدد «سلة غذاء العالم»
يعاني 828 مليون شخص في العالم الجوع، ينتشر نحو 1 / 3 منهم في إفريقيا، فتقرير مجموعة البنك الإفريقي للتنمية يتحدث عن 249 مليون جائع إفريقي، مع تنامي المخاوف من الزيادة في الأعداد بشكل أسرع من أي مكان في العالم. يعد ذلك إحدى مفارقات القارة، فما تملكه من مؤهلات طبيعية ومقومات بشرية يجعلها سلة غذاء العالم بلا منازع. يجمع الخبراء على أن إطلاق العنان للإمكانات الزراعية لإفريقيا، قد يكون بديلا لإنقاذ العالم من أزمة غذاء عالمية، بادية في الأفق، تنذر بتجويع الملايين في مختلف أصقاع العالم.
فعلا إفريقيا قادرة على إطعام نفسها، حتى المساهمة في توفير الطعام للعالم، حقيقة تثبتها الأرقام والإحصائيات، بخلاف ما يتداول من سرديات، أغلبها ذو أصول استعمارية، تؤكد فقر وفاقة القارة. صحيح أن مجتمعات بأسرها في إفريقيا، تواجه حاليا واحدة من أسوأ أزمات الغذاء، منذ نحو نصف قرن، نتيجة تداعيات وباء كورونا، ثم الصراع الروسي الأوكراني. لكن قبل هذه الأسباب الطارئة (الجائحة والحرب حتى المناخ) تمت معوقات جمة تحول دون استغلال مؤهلات القارة لفائدة أبنائها أولا، ولبقية شعوب كوكب الأرض.
كنوز إفريقيا المنسية
تمتلك إفريقيا إمكانات زراعية هائلة، يكفي أن تستغل على أحسن وجه حتى تجعل منها مائدة الغذاء العالمي بامتياز، فهذه القارة التي لا تزال بكرا، مقارنة ببقية القارات المستنزفة، تحتضن أكبر مساحة من الأراضي الزراعية، بنسبة تصل فيها غير المستغلة إلى 65 في المائة. فضلا عن استحواذها على 10 في المائة من المياه العذبة في العالم، تعززها موارد متجددة من أنهار وبحيرات، على غرار نهر الكونغو الذي يمثل وحده 30 في المائة من إجمالي المياه في القارة السمراء.
ديموغرافيا، يتوقع أن يبلغ سكان القارة 2.5 مليار نسمة، بحلول عام 2050. بذلك تكون ثاني أكبر قارة من حيث الموارد البشرية، مع اتساع في قاعدة الفئة النشيطة من الشباب (أقل من 35 عاما)، ممن يمثلون 65 في المائة من سكان القارة، ما يعني تزايد أعداد الأفراد في سن العمل. عكس المؤشرات في أوروبا التي ستشهد، في التاريخ نفسه، بحسب الأمم المتحدة، زيادة في أعداد الشيوخ، فالسكان النشيطون في إيطاليا مثلا سينخفضون بمقدار 13 مليونا.
بعيدا عن المؤشرات العامة بالقارة، تفيد الأرقام الخاصة بدولة الكونغو الديمقراطية، مثلا، بأن استغلال 80 مليون هكتار من أراضيها كاف لإطعام ملياري شخص حول العالم، أي أن حسن الاستثمار الزراعي في البلد، بإمكانه توفير طعام، يسد حاجيات سكان قارتي إفريقيا وأوروبا معا. السودان كذلك، ومثال، فالأراضي الخصبة هناك تستطيع إنتاج ما يحتاج إليه مواطنو الدول العربية من المحيط إلى الخليج من غذاء. ولا تزال معظم مساحة السافانا الإفريقية غير مستغلة، فمن إجمالي 400 مليون هكتار، بالكاد تزرع 40 مليون هكتار، ما يعادل 10 في المائة فقط.
عقبات داخلية ومعوقات خارجية رغم هذه الإمكانات المهمة طبيعيا وبشريا وجغرافيا، يظل الاستيراد خيار إفريقيا لتأمين حاجياتها الغذائية، فالأرقام تتحدث عن تخصيص الأفارقة 75 مليار دولار سنويا لما يفوق من 100 طن متري من الأغذية. ورغم تهديد شبح الجوع لملايين منهم، فالتفكير في السبل الكفيلة لتقليص الفجوة الغذائية بمعالجة جذرية للملف تكاد تكون غائبة عن الأجندات الرسمية، فالأمن الغذائي آخر أولويات الساسة وصناع القرار في القارة.
الاهتمام بالسياسة الزراعية في معظم دول القارة الإفريقية ضعيف، فالممارسة في هذا القطاع رهينة الأساليب التقليدية دون اهتمام بالتكنولوجيا والتقنيات الحديثة، رغم التطور الذي شهده العالم بشأن أدوات استغلال الثروات الطبيعية، ما يجعل المردود ضعيفا مقارنة بالإمكانات الهائلة المتوافرة في باطن الأرض. انعكس ذلك بوضوح على الإنتاج، فالهكتار في إفريقيا أقل إنتاجية من نظيره في أوروبا أو أمريكا، بنسبة تصل إلى 40 في المائة.
وكانت الفجوة الإنتاجية واضحة حتى داخل البلد الواحد، فإنتاجية المزارع العادي تقل عما يحققه من اعتمدوا الوسائل الحديثة، بنسبة 90 في المائة. بمقدور إفريقيا إذن أن تصبح منتجا رئيسا للأغذية، متى تمكن المزارع العادي من الاستثمار للوصول إلى أعلى مستويات الإنتاجية. رهان يبقى وثيق الصلة بعائق التمويل أكبر عقبات الإقلاع الزراعي في بلدان القارة، فالبنوك الإفريقية تتحفظ على إقراض المزارعين، إذ على الرغم من مساهمتها في إجمالي الناتج المحلي الإفريقي بنسبة 29 في المائة، فالزراعة لا تتلقى سوى 3 في المائة من القروض المصرفية.
فضلا عن ذلك، يواجه المزارعون -بمن فيهم من طوروا وسائل الإنتاج- مشكلات في التسويق، فتصريف المنتوج إلى أسواق الدول المجاورة معضلة كبرى، لسوء أوضاع شبكة الطرق والبنيات التحتية. فنقل منتوج من غانا إلى ألمانيا مثلا يتطلب زمنيا نصف (ست ساعات) ما يحتاج لبلوغ دولة السودان (13 ساعة)، وتكلفة تصديره داخل القارة أكثر من نظيرتها نحو أوروبا. كلها معوقات تحول دون استثمار التنوع الكبير للمنتجات الزراعية، في تلبية حاجيات الأسواق الإفريقية المحلية.
سوق واعدة وأطماع دولية
يتوقع البنك الإفريقي للتنمية أن ترتفع سوق الزراعة في إفريقيا من 280 مليار دولار عام 2023 إلى تريليون دولار بحلول عام 2030، ما جعلها محور اهتمام القوى الكبرى، بحثا عن بدائل تعوض بها استنزاف القارات القديمة. فالقارة سوق استهلاكية واعدة، فوفق تقديرات الأمم المتحدة يتوقع أن تصل 2.5 مليار نسمة خلال عام 2050، تتطلب فقط استثمارات تقدر بما بين 28 مليار دولار و36 مليار دولار سنويا لتتحول إلى سلة غذاء العالم.
شرعت الدول الآسيوية تباعا في اقتحام المجال الزراعي بالقارة، فعملت الصين على استزراع نحو 1.5 مليون هكتار من الأراضي الزراعية بعدة دول (الكاميرون وأوغندا وتنزانيا ومدغشقر ونيجيريا...)، وبدأت مشاريع مثل "حديقة وانباو" في موزمبيق تتحول إلى نماذج تسوق للتجربة الزراعية الصينية في القارة. لم تتأخر جاراتها، الهند واليابان، في التوجه إلى إفريقيا بحثا عن أيسر السبل لتأمين الطعام في المستقبل. فحضرت نيودلهي باستثماراتها في كل من زامبيا وبوتسوانا وجنوب إفريقيا، فيما اختارت طوكيو بوابة "تكياد" للتعاون مع الأفارقة في المجال الزراعي.
انتبه الأوروبيون أخيرا للمسألة، فسارعت باريس خلال توليها رئاسة الاتحاد الأوروبي العام الماضي، إلى إطلاق مبادرة "فارم" (مزرعة) بين الاتحادين الأوروبي والإفريقي ومجموعة الدول السبع، بتاريخ 24 مارس 2022، لضمان زيادة الإنتاج الزراعي وسط مخاوف عالمية من أزمة غداء واسعة النطاق. خطوة عدها مراقبون مدخل باريس لإعادة التغلغل في إفريقيا، عبر بوابة الأمن الغذائي.
وظهر ذلك باختيار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد إعادة انتخابه لولاية ثانية، في أول جولة إفريقية كلا من الكاميرون بنين وغينيا بيساو، مع التركيز على الأولى باعتبارها بلدا زراعيا وأول اقتصاد في وسط إفريقيا حتى يكون مختبرا لهذه المبادرة، الرامية إلى تعزيز الإنتاج الزراعي والاستثمار في البنى الزراعية في القارة، وتحديدا تلك البلدان غير المستهدفة من القوى الأخرى المتنافسة على نصيبها من سلة الغذاء العالمي.
لعنة الصراع قرينة إفريقيا، فتكرار سيناريو استنزاف المواد الخام منذ الاستعمار قد يعاد من جديد في المجال الزراعي، بصراع خفي بدأت بوادره في الظهور منذ 2015 في قمة دكار حول "إفريقيا واستراتيجية التحول الزراعي في القارة السمراء"، ما ينذر بإحداث ثقوب في سلة غذاء العالم من شأنها الحيلولة دون تأمين طعام الأفارقة، بالأحرى بقية سكان العالم.