العالم في حاجة إلى جرعة من المساواة الاقتصادية
أعلن البنك الدولي، العام الماضي، أن العالم على موعد مع فشل ذريع في تحقيق هدف القضاء على الفقر المدقع بحلول عام 2030، فـ"التقدم العالمي في الحد من الفقر المدقع قد توقف" في واحدة من أكبر الانتكاسات في معالجة الفقر، منذ الحرب العالمية الثانية. فلأول مرة منذ ربع قرن ازداد الثراء الفاحش والفقر المدقع بشكل حاد معا، والتحق عام 2020، بقائمة الفقراء أكثر من 70 مليون شخص إضافي، ما يمثل زيادة قدرها 11 في المائة.
أرقام صادمة تضمنها تقرير "البقاء للأغنى" الصادر عن منظمة أوكسفام البريطانية، بداية العام الجاري، ترصد التفاوت الخطير في توزيع الثروات في العالم، فأغنى 1 في المائة من البشر استحوذوا، خلال العامين الماضيين فقط، على ما يقارب 2 / 3 من الثروات الجديدة المتراكمة. بصيغة أكثر تعبيرا، بلغ إجمالي الثروة العالمية، منذ 2020، ما قيمته 42 تريليون دولار، كان نصيب الأغنياء فيها 63 في المائة (26 تريليون دولار). فيما اكتفت البقية، أي الأكثرية، بنسبة 37 في المائة (16 تريليون دولار).
راكم الأثرياء ثروات ضخمة، في زمن قياسي، وشكل غير مسبوق، فمقابل كل دولار كسبه أفقر 90 في المائة من البشر من الثروة العالمية الجديدة، يجني هؤلاء 1.7 مليون دولار. ما انعكس على ثرواتهم التي نمت بـ2.7 مليار دولار، مقابل تآكل أجور أزيد من 1.8 مليار شخص في العالم بسبب التضخم. وفي إحصائية معبرة عن الخلل الكبير في التوزيع، كشف التقرير عن أن كل 100 دولار من الثروة الجديدة المنتجة، ما بين ديسمبر 2019 وديسمبر 2021، لم ينل فيها أفقر 90 في المائة سوى عشرة دولارات، بينما ظفر أغنى 1 في المائة من البشر بما قدره 63 دولارا.
يعد التقرير أن ازدهار أصحاب المليارات، وتمكنهم من تحقيق هذه الأرباح، فيما يواجه معظم الناس ويلات التقشف والفقر لهو "خير دليل على نظام اقتصادي يفشل في خدمة الإنسانية". فضلا عن كونه مؤشرا إلى زيف ادعاءات "الحكومات والمؤسسات المالية الدولية والنخب العالمية بسردها رواية خيالية عن اقتصاد يتقاطر نحو الأسفل، حيث من شأن الضرائب المنخفضة والمكاسب المرتفعة لقلة من الناس أن تفيدنا جميعا في نهاية المطاف. إنها سردية لا أساس لها من الصحة".
وسبق لصندوق النقد الدولي أن أثبت ذلك في بحث له بهذا الشأن معتبرا أنه "إذا زادت حصة 20 في المائة من البشر (الأغنياء)، فإن نمو الناتج المحلي الإجمالي ينخفض عمليا على المدى المتوسط، ما يشير إلى أن الفوائد لا تتقاطر نحو الأسفل". عمليا، شهدت معدلات الضرائب على الأغنياء انخفاضا منذ عقود، وخلافا للتوقعات التي تذهب إلى انعكاس ذلك على الطبقات الفقيرة، نمت حصة الثروة التي تذهب إلى أقلية من الأثرياء بشكل حاد.
ونجح هؤلاء، بحسب التقرير، في حماية مصالحهم بنفوذهم القوي في وسائل الإعلام، حيث الترويج الدائم والمستمر لسردية "اقتصاد يتقاطر إلى الأسفل". ففي الولايات المتحدة تسيطر أقلية من الأثرياء (جيف بيزوس ومايكل بلومبيرج وروبرت مردوخ...) على صناعة الأخبار في البلاد، أما فرنسا فيستحوذ 11 مليارديرا على مؤسسات إخبارية، تمثل أكثر من 8 في المائة من الصحف اليومية في البلد، و75 في المائة من حصص سوق التلفزيون، و74 في المائة من حصص سوق الراديو. وفي الهند يتحكم ملياردير واحد هو موكيش أمباني في 27 قناة تلفزيونية تصل إلى أزيد من 800 مليون مواطن في البلد.
لكن ذلك لا يستطيع إخفاء مستوى اللامساواة الاقتصادية في العالم، فالأرقام تفيد بتضاعف ثروات أصحاب المليارات نحو 19 مرة، منذ عام 1987 إلى اليوم، حيث انتقلت من 728 مليار دولار إلى أكثر من 13 تريليون دولار. كما تؤكد اقتران الزيادات المهمة في الثروات بالأزمات التي شهدها العالم أخيرا، بدءا بأزمة فقاعات الدوت كوم (عام 2000)، مرورا بأزمة الرهون العقارية (عام 2008)، وانتهاء بجائحة كورونا (عام 2020).
تحتاج البشرية إلى مزيد من المساواة لضمان استمرارية العيش في عالم شديد الترابط، لأجل ذلك تقترح المنظمة الضريبة كأداة لبلوغ تلك الغاية، تحديدا الضرائب التصاعدية على الأغنياء، لمحاربة التضخم وارتفاع الأسعار وتفادي لجوء الحكومات إلى سياسات التقشف. فضلا عن ردم الفجوة بين الأغنياء والفقراء، بإيجاد مجتمعات أكثر مساواة نتيجة التوزيع التصاعدي للثروة داخل المجتمعات.
ويعطي التقرير أكثر من مثال على ذلك، فبإمكان الهند مثلا باعتماد هذه الضريبة أن تحصل من الملياردير جوتام أداني على 26 مليار دولار، مبلغ كاف لتوظيف أكثر من خمسة ملايين معلم في المدارس الابتدائية لمدة عام كامل. وبمقدور الضريبة على مداخيل كارلوس سليم (خمسة مليارات دولار) أن توظف 250 ألف معلم في المكسيك. وتكفي الضريبة على الثروة الصافية بنسبة 2 في المائة على أصحاب الملايين و5 في المائة على أصحاب المليارات، لتوليد إيرادات تقدر بنحو 1.7 تريليون دولار سنويا. مبلغ كاف لإخراج أكثر من ملياري شخص في العالم من تحت عتبة الفقر.
تحتاج البشرية أكثر من أي وقت مضى، إلى التضحية للحفاظ على استمراريتها، فإذا كان الأفراد العاديون، وهم الأغلبية الكاسحة يضحون يوميا من أجل توفير ضروريات الحياة من مأكل ومشرب ومسكن وملبس، فآن الأوان كي يضحي الأغنياء من جانبهم، ولو بالقليل، لتقليص الهوة بين القمة والقاعدة، وردم التفاوت الحاد في توزيع الثروة.