كوريا الجنوبية ترفض المغريات الصينية
مع بدء ظهور الملامح الأولى لعالم متعدد الأقطاب، تسعى دول عدة إلى صنع مكانة جديدة لها في تشكيل مسار هذا العالم، بحجز مقعد لها بين الكبار، وعلى الرغم من هذه المحاولات يبقى الارتباط بالولايات المتحدة الأمريكية مشكلة لهذه الدول، والمشكلة الأخرى تكمن في الارتباط بالتنين الصيني، الذي لا يفوت مناسبة لابتلاع الكيانات والاقتصادات الصغيرة، والسيطرة على الكيانات المتوسطة، بالديون والتشجيع على الاستثمار، وإغراء الكيانات الكبرى بتوفير البنية التحتية الصناعية والأيدي العاملة متدنية الأجور.
المشهد الصيني أثار حالة من الإرباك للدول الغربية في العقد الأخير، خصوصا لحلفاء واشنطن، إلا أن كوريا الجنوبية اتخذت إجراءات مبكرة للحيلولة دون الغرق في المستنقع الصيني، حيث أصدر المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية منتصف العام الحالي، دراسة حالة للتنمية الاقتصادية لسلاسل التوريد في كوريا الجنوبية، التي تهدف إلى تحقيق الاستدامة ومتطلباتها، وإعادة ضبط خططها الاستراتيجية بالتماشي مع الأوضاع الجيوسياسية إقليميا وعالميا، في ظل الإفراط العالمي في الاعتماد على الصين، وما ينطوي عليه من احتمالات العوامل الخارجية والفرص التي يمكن تحقيقها.
تواجه الدول الصناعية الكبرى تمدد النفوذ الصيني بإعادة الصناعات إلى دولها الأم، وعلى هذا المنوال سارت كوريا الجنوبية في خطتها الاستراتيجية بالتحلل الاقتصادي عن الصين، إلا أن شركات عدة فضلت البقاء في الخارج، بسبب ارتفاع تكاليف الأجور للعمالة المحلية، وقيمة الالتزامات للبنية التحتية، أما بقية الشركات الكبرى فرأت أن منافستها العالمية مرتبطة ببقائها خارج البلاد.
هذه الأوضاع أدت إلى التفكير خارج الصندوق، واتجاه صناع القرار إلى التفكير مليا في مصلحة قطاع الأعمال، ووضع منطقة فاصلة بين المصالح التجارية والاعتبارات السياسية والأمنية بين الحكومة وشراكاتها السياسية مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، وعلاقة جيران الصين الداعمة للجارة الكورية الشمالية، ليكون الحل بالخروج من الصين واللاعودة القسرية إلى البلد الأم، والهجرة نحو قواعد صناعية أكثر نجاعة من الصين.
اعتمدت كوريا الشمالية في توسيع أطر سلاسل التوريد في تنميتها الاقتصادية خارج حدودها، والانسلاخ التدرريجي عن التصاقها المرتبط بالصين، التي شكلت مظلة اقتصادية للصناعات الكورية الجنوبية في مجالات العمالة، والتصنيع، وتجميع القطع، والمواد الخام وغيرها من المغريات الاقتصادية، التي ربطت واقع الاقتصاد الكوري الجنوبي بالاقتصاد الصيني، على الذهاب في توجهها الأخير بالابتعاد عن الصين تدريجيا.
شكلت سيئول حالة متفردة بالاستقلال الاقتصادي عن الصين، بتحقيق التكامل الإقليمي في أبهى صوره، من خلال إعادة توطين استراتيجيات التوطين لشركاتها المحلية ذات الصناعات المنتشرة عالميا كالسيارات والكهربائيات وصناعة السفن، لتتمكن فيما بعد من منافسة الاقتصادات الآسيوية الصاعدة، وتتفوق عليها من ناحية الجودة والمسموعية الجيدة، ما جعلها الند التجاري للصناعات الأوروبية والأمريكية في الأسواق بالتكلفة الأقل والانتشار الأكبر.
القدرات الكورية الجنوبية ما كانت لتحقق ما هي عليه لولا أن بدأت رحلتها مبكرا، ففي الوقت الذي ارتمت فيه الدول للصناعة في الصين، بفتح المصانع والحصول على العمالة الأقل تكلفة والمواد الخام الأرخص، كانت كوريا الجنوبية تسحب استثماراتها من الصين شيئا فشيئا، حتى تمكنت من توفير بنية تحتية صناعية في البلاد وخارجها بعيدا عن الصين.
اتجهت الحالة الكورية الجنوبية إلى تنويع خياراتها الاستثمارية بعيدا عن الصين بالتأسيس لقواعدها الصناعية المتنوعة في دول شرق آسيا، وحصلت على امتيازات إضافية، علاوة على الامتيازات الموجودة مسبقا في هذه الدول، التي توازي البيئة الصينية من حيث العوامل المتعلقة بالبنية التحتية، والعمالة منخفضة التكاليف، وكذلك الموقع الاستراتيجي، المرتبط بطرق سلاسل الإمداد الدولية.
كانت فيتنام من أهم الوجهات الشرق آسيوية بالنسبة إلى كوريا الجنوبية بعد التحلل من الارتباط الصيني، وأصبحت في غضون سبعة أعوام البيت الجديد لشركة سامسونج، لتصبح التوأمة بين الشركة والبلد الحاضن قصة نجاح متفردة، نتجت عنها فوائد كبرى أهمها تمكن الشركة الكورية الجنوبية من الإسهام في تغطية أكثر من 25 في المائة من صادرات البلاد، أما "سامسونج" فكان أكثر من نصف إنتاجها يصنع في فيتنام، لتكون هذه الحالة في حد ذاتها قصة نجاح.
قصة النجاح الكورية الجنوبية المتمثلة في شركة سامسونج في فيتنام كانت لها بدايات سوداء على الأراضي الصينية، حيث أدى الإقبال العالمي للاستثمار في الصين إلى ارتفاع التكاليف وأجور الإيادي العاملة، وكذلك انخفاض حصتها السوقية، نتيجة المنافسة مع المنتجين الصينيين، ومتطلبات السوق المحلية، ليتبقى للشركة نحو ثلاثة مصانع فقط على الأراضي الصينية.
وسعت كوريا الجنوبية رقعة استثماراتها الخارجية بعيدا عن الصين، وكانت لها تجربة استنثائية في الهند، حيث دشنت أكبر مصانع الهواتف النقالة في العالم هناك، للحفاظ على مكانتها التنافسية لشركة أبل الأمريكية، والشركات الصينية الرائدة الأخرى مثل هواوي وشاومي وغيرها.
العلاقة السياسية المتوترة بين واشنطن وبكين تفرض نفسها بقوة على الاستراتيجية الكورية الجنوبية، حيث لا مفر من الخضوع للحسابات الجيوسياسية في هذه المرحلة من عمر العالم، الذي يعيش صراعا فيما يتعلق بصناعات تكنولوجيا الجيل الخامس، وسيؤدي الانفصال الكوري الجنوبي عن الصين إلى التضرر المشترك لكل من البلدين، ما يعطي الأولوية لواشنطن بأن تكون الأكثر تحقيقا للإنجازات في هذا المجال.
بدورها، أعلنت وزارة التجارة الأمريكية عن محددات جديدة في التعامل التجاري المتعلق بتقنية الجيل الخامس مع الصين، بمنع أي ما يمكن استخدامه في صناعات الجيل الخامس لها من المعدات المصنوعة أمريكيا، حتى لا تتمكن من تسريع عمليات التصنيع، إلا أن الصين وعلى الرغم من الانفصال الكوري الجنوبي، والعقوبات الأمريكية، تمكنت من صنع شرائح إلكترونية يصل حجمها إلى سبعة نانومترات، التي تعد متقدمة جدا، وتتخلف عن الأمريكية بجيلين فقط، حيث يبلغ حجم رقاقات الجيل الأمريكي ثلاثة نانومترات.
ليست الصين وحدها أحد أسباب الاستراتيجية الكورية الجنوبية، فاليابان أحد أهم العوامل، التي دفعت سيئول إلى اتخاذ القرار بتبني استرتيجيتها الأخيرة، بعد أن استثنيت كوريا الجنوبية من القائمة البيضاء اليابانية للشركاء التجاريين الموثوقين، إضافة إلى سحب المزايا التفضيلية من شركاتها في اليابان، حيث كان هذا القرار مرتبطا بقرار قضائي كوري جنوبي يقضي بتحمل الشركات اليابانية دفع تعويضات لضحايا العمل القسري في الحرب العالمية الثانية، كما لحقه توجه ياباني بحظر صادرات ثلاث من المواد والعناصر الكيميائية لتصنيع أشباه الموصلات وشاشات الكمبيوتر في كوريا الجنوبية.