الممر الاقتصادي .. الاستقلال الاستراتيجي لا الاصطفاف الأيديولوجي
أثارت قمة مجموعة العشرين الأخيرة بنيودلهي كثيرا من الجدل في أوساط المراقبين، فمضامين الإعلان المشترك لم تعجب أكثر من جهة، لكن مبادرة الممر الاقتصادي المعروفة باسم "الشراكة من أجل الاستثمار العالمي في البنية التحتية" تبقى الحدث الأهم الذي احتدم حوله النقاش بقوة، فتعددت الروايات وتنوعت القراءات وكثرت التأويلات حد التضارب، بين من يعد المشروع شوطا جديدا في مسار الاندماج العالمي الذي تفرضه رياح العولمة، ومن يرى أن هناك دلالات أخرى وأبعادا أكبر لمشروع يحاول بذكاء استثمار معطيات اقتصادية وجغرافية لمصلحة الإنسانية.
تظهر تفاصيل مشروع بناء ممر اقتصادي يربط الهند بالقارة الأوروبية مرورا بالشرق الأوسط، الموقع الجغرافي والاستراتيجي للمملكة العربية السعودية في المبادرة، إلى جانب كل دول الإمارات والأردن وقبرص واليونان وألبانيا وإيطاليا والبوسنة والهرسك وكراوتيا والمجر والنمسا والتشيك وألمانيا. فالمشروع الواعد بين القارتين، أظهر للعالم بأسره أن الرياض نقطة ارتكاز محورية في معادلة الربط بين الشرق (آسيا) والغرب (أوروبا)، فهي الجسر الوحيد الآمن نحو ازدهار اقتصادي لكل الدول المشاركة.
يطمح المشروع، بلسان أهل الاقتصاد، إلى ربط الهند بأوروبا من خلال سكة حديد وموانئ قائمة بدول المشرق العربي، لربط المراكز التجارية في القارتين الآسيوية والأوروبية وتسهيل تطوير الطاقة النظيفة وتصديرها، ودعم أوجه التعاون في المجالات التجارية والصناعية، وتعزيز الأمن الغذائي وسلاسل التوريد. علاوة عن ربط شبكات الطاقة وخطوط الاتصالات عبر الكابلات البحرية لضمات الوصول إلى الكهرباء، وتعزيز ابتكار تكنولوجيا الطاقة النظيفة والمستدامة.
على صعيد آخر، بين المشروع همة وعزم صناع القرار في المملكة، على تحويل البلاد إلى قاطرة لقيادة قطار التنمية بين القارات. فقبل أعوام، تحديدا عام 2018، كان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قد أعلن أن الشرق الأوسط سيكون أوروبا الجديدة، رافعا سقف التطلعات عاليا، في تحد واضح لكل القلاقل والتوترات التي تعيشها المنطقة. فالمشروع الممتد على مسافة تفوق ثلاثة آلاف ميل، بشقيه: الشرقي بين الهند والخليج العربي، والشمالي الرابط بين الخليج وأوروبا، يمثل خطوة مهمة ونوعية من أجل تحقيق رؤية ولي العهد على أرض الواقع.
وهذا ما أكدته أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية حين عدت أن "المشروع سيجعل التجارة بين الهند وأوروبا أسرع بنسبة 40 في المائة"، قبل أن تستدرك فيما يشبه النفي بأن "المشروع أكبر بكثير من مجرد سكك حديدية أو كابلات" مشيرة إلى أنه "جسر أخضر ورقمي بين القارات والحضارات". كلام الرئيس الأمريكي جو بايدن لم يخرج عن هذا السياق، حين وصف الاتفاق بالتاريخي، معتبرا بأنه "سيسهم في جعل الشرق الأوسط أكثر استقرار وازدهارا".
تصريحات وأحاديث لا تشكل فارقا في نظر فصيل من المحللين عد بأن المشروع لا يخدم الصين، بالأخذ في الحسبان مشروعها "طريق الحرير" ضمن المبادرة الشهيرة "الحزام والطريق"، فالممر الهندي في نظرهم منافس للمشروع الصيني، لا بل إنه بديل له. لأن المبادرة الجديدة ثمرة تعاون هندي أمريكي، بحسب مراقبين في السياسة الدولية، لوقف اكتساح وتمدد التنين الصيني، وما من دولة في المنطقة بمقدورها كسب نتيجة هذا التحدي سوى النمر الهندي.
قراءة تستبعد معطيات مهمة، من شأن قلب التحليل رأسا على عقب. في مقدمتها خصوصية العلاقات السعودية الهندية، ولا سيما العلاقات الاقتصادية والتجارية المتأصلة، فالهند ثاني أكبر شريك تجاري للمملكة، حيث وصل حجم التجارة الثنائية نحو 53 مليار دولار خلال عام 2022. وكانت الرياض رابع أكبر شريك تجاري لنيودلهي في العام ذاته، فهذه الأخيرة تحصل على سبيل المثال من 18 في المائة من احتياجاتها النفطية من الأولى. فضلا عن كون الرياض، في المركز 17، ضمن قائمة العشرين دولة الأكثر استثمارا في الهند.
فضلا عن تقاسم البلدان الموعد نفسه تجاه المستقبل، فلدى الرياض ونيودلهي رؤية وطنية شاملة، "رؤية السعودية 2030" و"الرؤية الاقتصادية 2030"، تعملان على بلوغهما بمتم العقد الجاري. كما أن الجالية الهندية بالسعودية عنصر فعال في النمو الاقتصادي للبلدين، حيث تمثل هنا 7 في المائة من التعداد السكاني، أي ما يعادل 2.6 مليون هندي فوق التراب السعودي. فيما تمثل هناك في الهند مصدرا لنحو ثمانية مليارات دولار من التحويلات المالية سنويا.
بمنظور سياسي براغماتي، وبعيدا عن أي تأويل، يعد المشروع فرصة ذهبية للسعودية؛ الدولة صاحب الاقتصاد الأسرع نموا في مجموعة 20، وصاحبة رؤية ثورية انطلقت منذ أعوام لتحديث شمولي يسعى إلى كتابة صفحة جديدة في تاريخ الدولة السعودية.
وفي المقابل، ترى الهند في مشروع الممر أقصر الطرق لدفع نمو اقتصادها عبر تطوير شراكات وعلاقات أوثق في المنطقة، تضمن تحالفات استراتيجية جديدة تخرجها من شرنقة شبه الجزيرة الهندية.
كل ذلك، فضلا عن تصريح لوزير الاستثمار السعودي خالد الفالح على هامش حضور قمة العشرين بنيودلهي، عد فيه أن الممر سيكون "المكافئ لمبادرة الحزام والطريق"، ما يفيد أن انخراط الرياض في هذا المشروع لا يضمر بالضرورة عداوة لمشروع آخر، فمن الصعب على الرياض أن تكون في صف بلد دون آخر، فهي تبيع مليوني برميل نفط للصين، ونحو مليون برميل للهند. ما يسقط أي تأويل أو قراءة خارج سياق تنويع الشراكات والانفتاح على مختلف الجبهات، تفعيلا لمضامين رؤية المملكة 2030، فالرياض عازمة على لعب أدوار متعاظمة بحضورها الدائم على مسرح الأحداث (قمة العشرين، بريكس...).
يمثل هذا المشروع إذن صورة من صور "الاستقلال الاستراتيجي"، فأي قراءة للتحالف بين الرياض ونيودلهي ينبغي أن تكون بعيدا عن ثنائية الشرق والغرب، فكلا البلدين تخلصا من هذه التقوقعات الإيديولوجية الضيقة نحو التحرك على أساس المصالح واستثمار الفرص والتطلع إلى المستقبل.