تجدد الصراع الأذربيجاني الأرمني وسط حسابات ومصالح
بينما ينشغل العالم بأزمات الكوارث الطبيعية ما بين الزلازل والأعاصير ونقص المياه، يفقد الحلفاء مكانتهم بسبب تخليهم البعض عنهم بأحلك الظروف، حيث لم تعد روسيا حليفا موثوقا بالنسبة لأرمينيا، ولأن حسابات المصالح تتفوق على المبادئ، تتم التسويات على حساب الترضيات، ولا مكان للحديث عن القيم لمن لا يتبناها حيث انتفض الشعب الأذربيجاني على دعوات السلام التي أطلقتها روسيا بوقف الحرب مع أرمينيا، فيما تصبب نيرانها على أوكرانيا.
فعلى غفلة من الجميع تجدد الصراع بين أرمينيا وأذربيجان على حدود إقليم ناجورني كاراباخ المتنازع عليها في جنوب القوقاز، وسط تبادل للاتهامات بين طرفي النزاع، حيث أعلنت وزارة الدفاع الأرمينية أن أذربيجان المنتصرة أخيرا في حرب 2020 قد شنت هجوما مدفعيا وبالأسلحة النارية من العيار الثقيل على مواقع عسكرية أرمينية في بلدات حدودية.
كما أكدت وزارة الدفاع الأرمينية أن قوات أذربيجانية مزودة بقوة مدفعية أرضية وغطاء جوي من الطائرات المسيرة (الدرون)، تتقدم داخل الأراضي الأرمينية، متهمة إياها باستهداف البنية التحتية المدنية ومواقع عسكرية.
بدورها، اتهمت وزارة الدفاع الأذربيجانية القوات الأرمينية بشن أعمال تخريبية واسعة النطاق، بالقرب من مقاطعات داتشكسان وكلبياقار ولاشين الحدودية، متهمة أرمينيا بقصف قواتها المتمركزة هناك بقذائف الهاون.
ما قبل الأزمة، سبق أن استضاف أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي نظيريه الأرميني والأذربيجاني منتصف العام الحالي لبناء علاقة بناءة بين الطرفين بعيدا عن الصراعات، بهدف عمل تسوية سلمية للخلافات العميقة بينهما، وعلى إثر ذلك أعلنت أرمينيا وأذربيجان إحراز تقدم باتجاه تطبيع العلاقات بين البلدين على أساس الاعتراف المتبادل بالسيادة على الأراضي، وفتح جميع خطوط النقل التي تمر عبر الأراضي الأرمينية وذلك مع بدء المحادثات بينهما في موسكو.
وتعود أصول الأزمة لأسباب عدة أبرزها اتخاذ أذربيجان قرارا بإقامة نقاط تفتيش جديدة على ممر لاتشين، الذي يعد المنطقة البرية الوحيدة التي تربط أرمينيا بأقليم ناجورني كاراباخ، حيث عدت أرمينيا الخطوة أنها انتهاك كبير لوقف إطلاق النار المبرم في 2020.
على الرغم من الجهود الأمريكية، إلا أن غياب الوساطة الدولية عزز الصراع بين الدولتين، لتتجدد المواجهات الدامية التي شهدها صيف 2020 ليس في إقليم ناجورني كاراباخ وحده، بل على الحدود الرسمية بين أرمينيا وأذربيجان.
وتعد الجهود الدولية بحسب مراقبين التي بذلت في حل الصراع المباشر في منطقة القوقاز بعيدة كل البعد عن الحياد، كما أن القوى الدولية والإقليمية حاولت تقديم نفسها طرفا محايدا بين أرمينيا وأذربيجان، إلا أنهم يظلون أقرب إلى أرمينيا أو أذربيجان بحكم العلاقات التاريخية والاقتصادية والعسكرية.
على الرغم من غياب التدخل في فض النزاع إلا أن دولا عدة اتخذت مواقف مؤقتة أو غير مرضية لكلا الدولتين، والبداية من الولايات المتحدة التي اعترفت بأن إقليم ناجورني كاراباخ أرض أذربيجانية، لكن الأراضي المتنازع عليها تسيطر عليها حكومة مدعومة من أرمينيا تسمى جمهورية آرتساخ.
ولم تتوقف واشنطن عن حث الجانبين على التوقف عن استخدام القوة فورا، مدينة العنف الجاري بأشد العبارات لتجنب مزيد من التصعيد، والالتزام الصارم بوقف إطلاق النار، إلا أن الغريم الشرقي لواشنطن موسكو يعد الحليف الأبرز لأرمينيا، من خلال انتمائهم لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، الذي يعد تحالفا عسكريا سياسيا، يضم عددا من الجمهوريات السوفياتية السابقة وتقوده روسيا.
كما تستضيف أرمينيا قاعدة عسكرية روسية على أراضيها، ولا يتوقف الأمر عند تلك الحدود حيث سبق وأن نشرت موسكو نحو 2000 جندي حفظ سلام روسي للإشراف على وقف إطلاق النار بين البلدين، ليصبح حسم الصراع غير واضح الأفق فيما يتعلق بإيقافه.
فقدت روسيا مصداقيتها بالنسبة لدولتي الصراع حيث لا ترى أرمينيا بها شريكا موثوقا، وأنها تشكل تحديا خطرا، أما بالنسبة للنفوذ الروسي فقد بدأ يتضاءل في البلدين. كما انقلب الشعب الأذربيجاني ضد روسيا وقوات حفظ السلام التابعة لها بعد الهجوم على أوكرانيا، بينما لم يعد الدعم العسكري الروسي مفيدا بالدرجة نفسها لأرمينيا، إذ لم تعد روسيا من مصدري الأسلحة بغزارة، كما يرغب بوتين في الحفاظ على علاقاته الوثيقة مع تركيا التي تعد الحليف الرئيس لأذربيجان.
أما بالنسبة لأنقرة، تشهد العلاقة بين تركيا وأرمينيا خلافا منذ عقود بشأن مطالبة أرمينيا بالاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن، وهو ما ترفضه أنقرة بشدة وتنفي وقوع مثل تلك بحق الأرمن، ورغم عدم وجود علاقات دبلوماسية بين أنقرة ويريفان، فإن العلاقة بينهما توترت بشدة بسبب دعم تركيا لأذربيجان سياسيا وعسكريا.
ظهر التعاون العسكري بين أذربيجان وتركيا للمرة الأولى في 1992، وتتعاون الحكومتان بشكل وثيق في مجال الدفاع والأمن، وبشأن التعاون في مجال الطاقة بين باكو وأنقرة، تستثمر أذربيجان مليارات الدولارات في تركيا، أهمها الاستثمار في مجال الطاقة، وارتفعت وتيرة التقارب خلال 2022 لبناء قاعدة عسكرية تركية في أذربيجان.
على الرغم من تضارب المصالح، والطموح التركي لاستعادة دوره المفقود كراع عسكري وحليف لأذربيجان، ستحافظ روسيا وتركيا على مستوى من الحذر في الأزمة، لتجنب أي صدام أو مواجهة مباشرة بينهما، مع التركيز بشكل أكبر على الحرب من خلال الوكلاء.
إلى ذلك، تعد إيران ممر زنجزور حيويا بالنسبة لها، وتخشى انقطاع حدودها مع أرمينيا وتطويقها على نطاق واسع من قبل تركيا وأذربيجان صاحبتي العلاقات غير الودية معها، خصوصا أن أذربيجان صاحبة العلاقات الوطيدة بإسرائيل، التي اتهمت باستمرار بأنها قاعدة للنشاطات الاستخباراتية الإسرائيلية الموجهة ضد إيران، فقد انتقدت إيران الخطة، ما من شأنه أن يمنح أرمينيا مزيدا من الثقة بأنها قادرة على صد مشروع ممر زنجزور بمساعدة إيرانية.
بدورها، تسعى إسرائيل وأذربيجان إلى تطوير علاقات وثيقة منذ الإعلان رسميا عن إقامة العلاقات الدبلوماسية بين باكو وتل أبيب في أبريل 1992، حيث تعززت وتوثقت هذه العلاقات بينهما في المجال العسكري والأمني، وذلك على خلفية مزاعم التهديد الذي تشكله إيران على هذين البلدين.
وترتكز المصالح الإسرائيلية في العلاقات مع باكو على حقيقة أن أذربيجان تقع على حدود إيران، ما يجعلها مكانا مثاليا لجمع المعلومات الاستخباراتية عما يحدث في إيران، وباعتراف رسمي بأن شركات الصناعات العسكرية والأمنية الإسرائيلية تعد من الموردات الرئيسة للطائرات المسيرة والمدافع والدبابات والأسلحة إلى أذربيجان.