الهوية الوطنية السعودية .. من إرث محلي إلى ثقافة عالمية
ماذا تعرف عن السعودية؟.. لو طرح هذا السؤال خلال العقود الـتسعة الماضية على مواطنين من دول مختلفة، لن تتخطى أجوبتهم: "برميل نفط، صحراء، جمال سائبة، خيمة بدوية، إقليم نجد، الحرمين الشريفين". بينما إذا طرحنا السؤال الآن مجددا، فلن نستطيع حصر الأجوبة بسبب ما باتت تجسده المملكة من تراث وثقافة عالمية غير عادية، فالمواطن البرازيلي يعلم بأنها بلاد القهوة العربية التي يلعب فيها ابنهم الماكر والماهر نيمار، والبريطاني سيذكر رقصة العرضة التي أداها ملكه تشارلز الثالث في 2014 مرتديا الشماغ والعقال السعودي، والأوروبي سيستعرض صورة له من قلب نيوم والعلا، والآسيوي سيحاول نطق الكبسة بلهجته، أما العربي فشهادته مجروحة لتجانس الهوية والقيم، الأكيد بأن الشعب الوحيد الذي سيعرفك تمام المعرفة هم الأرجنتينيون بعد هزيمتهم في الدوحة على يد سالم الدوسري ورفاقه تزامنت معها الأهزوجة الشهيرة: أين ميسي؟.
الفرق بين الأجوبة والتحول من دولة ذات إرث محلي إلى دولة صاحبة ثقافة عالمية، لا علاقة له بلغة السياسة وحجم الاقتصاد، فهناك دول كثيرة عظيمة اقتصاديا بلا حضارة تذكر، والعكس صحيح، وهنا يكمن التحدي، لأن ربط صورتك الذهنية عالميا بتراثك ليس سهلا ولا مضمون النتائج، ويتم عبر أعوام طويلة من تراكم الخبرات وتعظيم التجارب، والأهم من ذلك أن يكون لديك محتوى مختلفا تقدمه للعالم، وهذا ما حدث فعلا على مدار حكم ملوك المملكة العربية السعودية.
هذا التحدي الثقافي نحو العالم، كان واضحا من البداية، بل ويمكن اعتبار تحويل اسم الدولة من مملكة الحجاز ونجد إلى المملكة العربية السعودية في 23 سبتمبر 1932 هو أول تلك الخطوات، فبهكذا إجراء، صار هناك هوية واحدة واسم واحد للدولة، ولم يكن غريبا أن يحتفل الملك عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- بهذا اليوم واعتباره عيدا للبلاد، فمن ناحية، الحدث يستحق الاحتفال، لكن من ناحية أخرى أدرك المؤسس أن وجود يوم وطني يحتفل به الجميع بتوحيد دولتهم، هو نوع من تعزيز الهوية وترسيخها داخل نفوس المواطنين أولا، قبل أن يأتي عام 2005 ليضفي مزيدا من التعزيز باعتبار هذا اليوم إجازة استثنائية في القطاعين الحكومي والخاص.
آليات صناعة الهوية السعودية
العلم الوطني أيضا كان إحدى الآليات لصناعة الهوية السعودية، لكونها بلد الحرمين الشريفين وثقافتها منبثقة من الإسلام، اختارت شهادة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" عنوانا لها، إضافة إلى سيف مقبضه عند بداية كلمة التوحيد ونهايته نحو السارية كناية عن انتهاء القتال فأصبح رمزا للقوة والمنعة، أما اللون الأخضر الدال على النماء فهو رسالة المملكة للعالم، وكان إقراره بهذا الشكل عام 1938.
منذ هذا الوقت، لم يتوقف الاهتمام بالإرث المحلي السعودي، وعمل ملوك المملكة بصفتهم شخصيات عالمية على نشره من خلال التمسك به في كل مناسبة، بداية من الثوب المميز بشماغه وعقاله، وصولا إلى تأدية الرقصات الوطنية مثل "العرضة" التي تجسد هوية المملكة وتعبر عن القوة والاعتزاز، وفي عصر ما قبل "السوشيال ميديا" كان ظهور الملوك بهذا التراث أثناء لقاءاتهم الرسمية مع زعماء ورؤساء الدول، كاف لتسليط الضوء عليه وبحث الصحف ووكالات الأنباء العالمية عن تاريخ هذا التراث، أقربها البشت السعودي الذي ارتداه رئيس الوزراء الياباني الراحل شينزو آبي في خيمة في العلا مع سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان يناير 2020.
في بداية التسعينيات، ظهر مفهوم العولمة وتحويل العالم إلى قرية صغيرة، ومع تنامي الثورة التكنولوجية الناشئة وقتها، تعرضت جميع الدول بحسب السياسي الأمريكي المخضرم، هنري كيسنجر إلى أزمة هوية، فالعصر الجديد تذوب فيه الأفكار والانتماءات بشكل يجعل الاستقرار الداخلي لأي دولة أمر صعب، فالهوية والثقافة ليست فقط مجرد عنوان للدولة بل أهم عوامل الاستقرار داخل المجتمع، فتوحيد الفئات المختلفة في الدين والعرق واللغة تحت قوانين وأنظمة ثابتة واعتزازهم بثقافة موحدة أساس قوة أي دولة بحسب "كيسنجر"، وأمام هذا الطوفان، ومع التمسك باللحاق بركب التقدم، ظلت الرياض محافظة على هويتها التي رسختها خلال العقود السابقة.
إذا جاز القول يمكن اعتبار الملك المؤسس أول من زرع الهوية السعودية في نفس مواطنيه، ثم تلاه أبناؤه الملوك الذين رسخوا وعززوا تلك الهوية، فالمؤكد أن الملك سلمان بن عبدالعزيز – حفظه الله- وولي عهده سمو الأمير محمد بن سلمان، أطلقا خلال العقد الماضي المرحلة الثالثة التي استهدفت في المقام الأول نقل التراث السعودي من المحلية إلى العالمية، وبرعايتهما المباشرة وضعت الهوية الوطنية أولوية في رؤية 2030، وهو تصرف ريادي بين الدول، خاصة أنه لم يكن مجرد عنوان لامع فقط، بل سرعان ما تحولت تلك الرؤية إلى واقع عملي، بداية من برنامج "تعزيز الشخصية السعودية" الذي أطلق في 2020 كــ11 برنامجا تؤدي إلى هذا الغرض.
اللوحة الخضراء أوضح
كل خطوة تجعل اللوحة الخضراء أوضح، قاعدة انطبقت على التراث السعودي خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بداية من 2021 الذي خصصته وزارة الثقافة لـ"الخط العربي" واحتفت به من خلال فعاليات داخل وخارج المملكة، فما كان من اليونسكو إلا اعتماده رسميا كتراث ثقافي غير مادي في ديسمبر من العام نفسه، وفي انتصار واضح للهوية العربية، أما 2022 فخصصته وزارة الثقافة للقهوة كمشروب ليس سعوديا فقط، بل يملك دلالات عميقة على الكرم والضيافة والخصوصية الفريدة للثقافة السعودية، بحسب وصف الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان وزير الثقافة السعودي، وأقيمت الفعاليات والمهرجانات خلال العام من أجل تعريف العالم بـ"القهوة السعودية".
لم تتوقف أجزاء الصورة عن الاكتمال، ففي 22 فبراير من العام نفسه، احتفلت المملكة أيضا لأول مرة بـ"يوم التأسيس" وهو إحياء لذكرى تأسيس الدولة السعودية الأولى بحسب المرسوم الملكي الذي أصدره الملك سلمان بن عبدالعزيز – حفظه الله- كما أصدر في 2023 مرسوما آخر باعتبار 11 مارس من كل عام عيدا لـ"العلم السعودي"، وهو اليوم الذي أقر فيه الملك عبدالعزيز راية المملكة بشكلها الحالي، إضافة إلى ذلك كانت قرارات أخرى، منها: موافقة مجلس الشورى على مشروع نظام تعزيز استعمال اللغة العربية الذي يهدف إلى الالتزام بلغة الضاد من خلال حث الجهات الحكومية وغير الحكومية على استعمالها، وهكذا شيئا فشيئا فهم سر هذا الاعتزاز الذي يسير به المواطن السعودي في كل مكان في العالم، مؤمنا بداخله أنه صاحب حضارة وتراث عالمي، ومشاهدا للآخرين الذين حين يذكر اسم بلاده السعودية يحدثونه هم عنها، بداية من مدائن صالح وواحة الأحساء والدرعية وهي آثار عالمية مسجلة في اليونسكو، وصولا إلى مجرور وخبيتي وسامري، وجميع ألوان الرقص والفنون الشعبية السعودية خلال الاحتفالات، التي تعتزم وزارة الثقافة أخيرا تسليط الضوء عليها من خلال مهرجان "لحن المملكة".