السعودية في الثلاثينيات بعيون إيطالية
تعد كتابات الرحالة والمستكشفين والمستشرقين الغربيين عن الجزيرة العربية عموما وبلادنا خصوصا من المصادر المهمة للباحثين، ورغم أن جزءا من تلك الكتابات لا يخلو من أجندة استخبارية سياسية، إلا أن روح العلم والاستكشاف جعلت من مدوناتهم سجلا مرجعيا لا يستغني عنه الدارسون والباحثون العرب بعد ذلك بعشرات السنين خاصة تلك التي الكتابات التي دونت في مرحلة تاريخية لم يكن فيها للتوثيق حضور في الثقافة العربية خصوصا، لأن معظم أولئك الغربيين من ذوي الميول العلمية والأدبية الذين كانوا يسجلون بأقلامهم كل ما يلاحظونه ويوثقون كل ما يرونه بدقة عالية بل يلتقطون بعدسات كاميراتهم صورا تبين واقع الحياة الاجتماعية لتبقى شاهدا على حركة التاريخ والحضارة. أما المستشرقون المختصون فلا شك أن كثيرا منهم كان مدعوما من جهات علمية محضة بهدف استكشاف بلاد العرب ودراسة مجتمعها.
المستشرق الإيطالي نلينو
ومن بين أولئك يأتي المستشرق الإيطالي كارلو ألفونسو نلينو Garlo Alfonso Nallino (1872-1938) وهو من كبار المستشرقين الطليان، ذكر الزركلي أنه كان غزير العلم بالجغرافيا والفلك عند العرب، عارفا بالإسلام ومذاهبه، كثير التتبع لتاريخ اليمن القديم وخطوطه ولهجاته. ولد هذا المستشرق في تورينو ونشأ وتلقى دروسه الأولية ومبادئ العربية والعبرية والسريانية في مدينة أوديني، واستكمل دراسته في جامعة تورينو، وأرسلته حكومته إلى القاهرة سنة 1893 فأقام نحو ستة أشهر، وعاد فنشر كتابا بالإيطالية عن اللهجة المصرية، ودرس العربية في المعهد الشرقي بنابولي بين 1894 و1902، ودعي إلى مصر سنة 1909 فألقى في جامعتها محاضرات بالعربية جمعت خلاصاتها في كتاب بعنوان (علم الفلك، تاريخه عند العرب في القرون الوسطى)، ولما احتلت إيطاليا طرابلس الغرب عين مديرا للجنة "تنظيم المحفوظات العثمانية" بوزارة المستعمرات في روما، وعهد إليه بتدريس تاريخ الإسلام في جامعتها سنة 1915، وتولى الإشراف على مجلة "الدراسات الشرقية" ثم مجلة "الشرق الحديث" وكلتاهما بالإيطالية. ودرس تاريخ اليمن في كلية الآداب بمصر ما بين 1927 و1931، وكان من أعضاء المجمع العلمي الإيطالي ومجمع اللغة العربية بمصر، له كتب وأبحاث كثيرة، بالإيطالية. أما آثاره العربية غير محاضراته في علم الفلك، فهي: "تاريخ الآداب العربية"، ومقالات نشرت في المجلات العربية، ونشر من كتب العرب "زيج الصابي" مع ترجمته إلى اللاتينية، وأشار الزركلي إلى تأليف مراد كامل عالم اللغات المصري كتابا عنه تحت عنوان "المستشرق نلينو، حياته وآثاره".
غيب الموت كارلو ألفونسو نلينو في 25 يوليو 1938 بعد أن أمضى 18 عاما مديرا عاشقا ودؤوبا لمعهد دراسات الشرق الحديث (Oriente Moderno) في روما، ففكر المعهد وفاء لهذه الشخصية أن يشرع في نشر مجموعة من كتاباته، على أن اختيار هذه المجموعة اعتمد على أن تكون ذات فائدة واسعة تشمل دارسي التاريخ والجغرافيا والحقوق والقضايا الدولية، ولا تقتصر على حدود دائرة المستشرقين الإيطاليين والأجانب، وكان المعهد يهدف من هذا إلى الاحتفاظ بشخصية نلينو العلمية لتكون قريبة منهم دائما.
من بين الأوراق التي تركها الراحل نلينو كتاب غير منشور حول المملكة العربية السعودية، وهو ثمرة رحلة قام بها إلى المملكة عام 1938 وزار خلالها جدة والطائف. وكان هذا الكتاب آخر أعماله، إذ إنه شرع بدأب على العمل فيه بعد عودته من الرحلة مباشرة، فأعد الجزء الأول من الكتاب المتعلق بالنظام السياسي والإداري والقضائي، مفكرا باستكمال هذا الجزء بجزأين آخرين يتناولان الحياة الاجتماعية والثقافية في الحجاز، ولكن القدر لم يمهله حتى يستكمل عمله.
فاضطلع المعهد بنشر هذا المجلد عام 1939 بمساعدة ابنته الدكتورة ماريا نلينو التي كانت رفيقته في تلك الرحلة إذ قامت بتحرير وإضافة الجزأين الثاني والثالث للكتاب بمساعدة ملاحظات ومذكرات والدها ومن ثم نشر الكتاب كاملا باللغة الإيطالية تحت عنوان العربية السعودية (1938م - larabia sa`udiana)، في حين كانت الدكتورة ماريا تؤكد أن كتاب والدها يعد دراسة شاملة عن المملكة العربية السعودية أنجز هيكلها العلمي خلال إقامته في جدة في الفترة ما بين 9 فبراير و29 مارس من عام 1938 فقد استطاع بمشاهداته والمقابلات التي أجراها مع بعض الشخصيات المحلية البارزة أن يجمع معلومات مهمة عاضدت المعلومات الواردة في المصادر فتمكن من تكوين صورة بانورامية للحياة في هذه المملكة.
2- كتاب (1938) larabia sa`udiana أو المملكة العربية السعودية عام 1938
في استهلال نلينو الجزء الأول من كتابه الذي يكتسب أهميته من كونه من أوائل الدراسات الغربية عن النظام السياسي والإداري والقضائي للمملكة العربية السعودية إن لم يكن أولها في ذلك التاريخ، إذ إنه ذكر أن مشروع دراسته قد أعلنه منذ ديسمبر 1928 لكنه لم ينفذ إلا بعد ذلك التاريخ بعشرة أعوام. أما مصادر هذه الدراسة فتركز على أربعة مصادر هي جريدة "أم القرى" وكتاب "البلاد العربية السعودية" لفؤاد حمزة، والمجلة الشهرية لمعهد دراسات الشرق الحديث في روما إضافة إلى المعلومات والتوضيحات التي حصل عليها نلينو من الشخصيات السعودية البارزة خلال إقامته بجدة.
ويلمح في بداية كتابه الذي تميز بعشرات الصور الفوتوغرافية النادرة إلى أن تسمية الملك عبدالعزيز بابن سعود، هو استخدام أوروبي سائد في الأدبيات الغربية بينما الاسم الصحيح سواء الرسمي أو غير الرسمي هو عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود، أو بكل بساطة عبدالعزيز بن عبدالرحمن، أو عبدالعزيز آل سعود، أو باختصار أكثر عبدالعزيز الأول، كما ورد في المادة (5) من التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية، أو "عبدالعزيز" فقط كما يرد في توقيع المراسيم.
ثم استعرض هذا المستشرق الإيطالي التسلسل التاريخي لبعض الأحداث التاريخية التي كان لها دور في تكوين المملكة العربية السعودية ابتداء من عام 1740 محاولا تدقيق بعض التواريخ فيذكر على سبيل المثال أن سيطرة قوات الملك عبدالعزيز على الطائف لم تكن يوم 7 صفر 1343هـ - 7 سبتمبر 1924 كما أشار الريحاني وذلك لأن ذلك حدث الجمعة وتاريخ الجمعة يوافق 5 صفر 1343هـ الموافق 5 سبتمبر 1924 مؤكدا أن يوم الأسبوع يكاد يكون هو العنصر الوحيد المؤكد عند التأريخ للحدث في التقويم العربي، ويلاحظ أن المؤلف حريص على دقة صياغة المفردات للتعبير عن الحدث فهو على سبيل المثال يؤكد أن الملك علي بن الحسين أعلن استسلامه وليس تنازله راحلا بأمتعته الشخصية فقط في 18 ديسمبر 1925.
القيادة السياسية للدولة السعودية
ويتحدث نلينو في الفصلين الثالث والرابع من الجزء الأول من الكتاب عن القيادة السياسية للدولة السعودية فيذكر أن النظام الملكي هو سبيل أي دولة لتطبيق مبادئ الشريعة واحتذاء طريقة الخلفاء الراشدين ومن سار على نهجهم، مؤكدا أن أي حاكم جديد للدولة لا يكتسب شرعيته للحكم إلا بعد حصوله على البيعة من أهل الحل والعقد في البلاد.
الملك عبدالعزيز وخلفه يوسف ياسين سكرتيره والطيب الهزازي رئيس ديوانه والشيخ محمد نصيف نشرها نلينو نقلا عن الريحاني،
ويشير إلى أن الملك لديه كل الصلاحيات المطلقة إلا أنه مقيد بأحكام الشريعة الإسلامية، لكنه في كل الأحوال ملتزم بمبدأ الشورى حريص على الأخذ بنصيحة أهل الثقة فيما يتعلق بأمور الدولة ولديه مجلس استشاري يقوم هو بتعيينه، وأما الأحكام القضائية والفتاوى الشرعية فإنها من اختصاص علماء الدين وإن كان للملك حق قبول أو رفض ما يقرره هؤلاء في المسائل الاجتهادية أو بعبارة أخرى -حسب نلينو- فإن الصلاحية الوحيدة للملك في هذا الأمر كما يسميها العلماء هي "صياغة الشريعة" بما لا يتعارض مع الشريعة.
إعلان التوحيد .. تشكيلات الحكومة
ومع ذلك فهو يرى أن الملك عبدالعزيز تميز بالإضافة والابتكار في تنظيم الدولة عندما وضع "التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية" في 31 أغسطس 1926 التي أسمتها الصحافة العربية والأجنبية آنذاك باسم "دستور الحجاز" وهذا أمر لم يحدث أبدا في الماضي من قبل الحكومات الإسلامية التي قامت بناء على تأثير سياسي أوروبي، لكن الملك عبد العزيز قرر أن يقوم بوضع هذه التعليمات لأسباب سياسية واجتماعية وجيهة. بينما لم تكن إدارة الدولة في نجد تحتاج إلى تعليمات مكتوبة أو قوانين محددة بل إن الأمر مرتبط بتدبير الملك في إطار أحكام الشريعة الإسلامية وتعليماتها، ولذا لم يكن في نجد آنذاك وزارات أو مديريات عمومية أو مكاتب رئيسة، ولكن كل شؤون الدولة تقضى مباشرة عن طريق أشخاص يثق بهم الملك ويوليهم المسؤوليات تحت نظره وتوجيهه.
التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية كما نشرت في صحيفة أم القرى
يرى نلينو أن تلك التعليمات الأساسية المتعلقة بالحجاز لا يمكن وصفها بالدستور بل هي مجرد موقف سياسي إداري مثله مثل أي إجراء يمكن أن يتخذه الملك، لأنه يمكن أن يقوم بتغيير أي جزء منها إذا وجد أن المصلحة تقتضي ذلك، وبالفعل فقد قام الملك بإجراء عدد من التعديلات عليها ما بين 1926 و1934. وكان من ضمن التعديلات الأساسية تلك التعديلات المتعلقة بمجلس الشورى المنصوص عليها في القسم الرابع من التعليمات عندما صدر نظام جديد للمجلس عام 1346هـ/1927.
ويرى أن تلك التعليمات حددت بشكل تام شكل الدولة فالمادة (2) تنص على: "أن الدولة العربية الحجازية دولة ملكية شورية إسلامية مستقلة في داخليتها وخارجيتها". هذا المفهوم نجده أكثر وضوحا في المادة (5): "تكون جميع إدارة المملكة الحجازية بيد صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز الأول بن عبدالرحمن آل فيصل آل سعود، وجلالته مقيد بأحكام الشرع الشريفة". لتتضح الصورة أكثر في المادة (6): "الأحكام تكون دوما في المملكة الحجازية منطبقة على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وما كان عليه الصحابة والسلف الصالح". أما المادتان (7)، (8) فقد نصتا على تعيين نائب عام للملك لإدارة شؤون الحجاز يكون مسؤولا عن مجريات الأمور أمام الملك.
وأشارت المادة (9) إلى تقسيم أمور المملكة الحجازية التنظيمية لستة أقسام أساسية هي: الأمور الشرعية، والأمور الداخلية، والأمور الخارجية، والأمور المالية، وأمور المعارف العمومية، والأمور العسكرية، دون أي إشارة إلى وجوب إدارة كل قسم من قبل رئيس منفرد، ولكن كان من الطبيعي فيما يتعلق بالأمور الخارجية والأمور العسكرية أن تخصص التعليمات الأساسية للنائب العام جزءا كبيرا من الأولى وكل الثانية.
وأشار نلينو في دراسته إلى أن التعليمات الأساسية نصت على وجود مجلس الشورى لمساعدة النائب العام مؤلف من ستة أعضاء ويرأسه النائب العام إلا أن تعيين الأعضاء يتم عن طريق الملك الذي يملك سلطة التصديق على القرارات أو رفضها (المواد 29 و31). إن المعايير المناظرة بالنسبة لتعيين أعضاء المجلس وكذلك التقرير النهائي لاتخاذ القرارات تم تأسيسها أيضا في مجالس ثانوية أخرى مثل: مجالس الإدارة بجدة والمدينة (المواد 32 و34) وديوان المحاسبات (مادة 43). لم يكن من الواضح إن كان يعتمد على الملك أم على النائب العام تعيين أعضاء مجالس النواحي ومجالس القرى والقبائل إلا أن قرارات مجالس النواحي تتطلب تصديق الملك (مادة 40).
ولاحظ نلينو أن منصب نائب الملك الذي تم إسناده إلى الأمير فيصل (الابن الثاني للملك) تعرض لأول تغيير تنظيمي مع صدور نظام مجلس الوكلاء 1350هـ/1931 الذي حول الستة أقسام التنظيمية في التعليمات الأساسية إلى ثلاث وزارات (داخلية وخارجية ومالية) يشكل رؤساءها مع نائب رئيس مجلس الشورى مجلس الوكلاء ورغم أن رئيس هذا المجلس هو نفسه النائب العام، إلا أن المادة (2) من نظام مجلس الوكلاء ميزت بين المنصبين تمييزا واضحا إذ جاء فيها: "رئيس مجلس الوكلاء يصبح في غياب جلالة الملك وبحكم وظيفته نائبا عاما لجلالته، وأما في الأوقات التي يكون جلالته موجودا فيها فإنه يكون رئيس لمجلس الوكلاء فقط" هذا التمييز انعكس في المادة (4): "لمجلس الوكلاء ديوان عام يتولاه رئيس مسؤول عن إدارة أعماله، ومن هذا الديوان تصدر المعاملات إلى الوكالات والإدارات سواء منها الصادر من مجلس الوكلاء أو من رئيسه بصفة الرئاسة، أو منه بصفته نائبا عن جلالة الملك في غيابه". أما المادة (19) فقد نصت على تقسيم النيابة العامة في ذلك الوقت إلى قسمين: قسم يعتمد يتبع وزارة الداخلية ويمارس فيه النائب العام المعاملات كما هو عليه، أما القسم الآخر فيتبع رئاسة مجلس الوكلاء. وتبعا لذلك نصت المادة (20) على تحويل اسم النيابة العامة إلى وزارة الداخلية وتغيير اسم الديوان الملكي إلى (ديوان النائب العام ورئاسة مجلس الوكلاء).
النائب العام في وادي فاطمة
في حقيقة الأمر فإن النائب العام تولى وزارة الداخلية فعليا كما نراه في المادة (3) من النظام، حتى صدور الأمر الملكي الصادر عام 1353هـ/1934 بترتيب جديد لوزارة الداخلية دمج أعمال وزارة الداخلية في ديوان رئاسة مجلس الوكلاء لتنتقل جميع مهام الوزارة وصلاحياتها ودوائرها إلى رئاسة مجلس الوكلاء.
وألمح نلينو إلى أنه عندما صدر الأمر الملكي بإعلان توحيد المملكة العربية السعودية عام 1351هـ/1932 نص في المادة (5) على تأسيس أجهزة إدارية للمملكة بناء على ذلك، ووصفت المادة (6) الطريقة كما يلي: "على مجلس وكلائنا الحالي الشروع حالا في وضع نظام أساسي للمملكة ونظام لتوارث العرش ونظام لتشكيلات الحكومة وعرضها علينا لاستصدار أوامرنا فيها". وأشار إلى أن مجلس الشورى شرع ابتداء من 24 مارس 1936 في إعداد النظام الأساسي للمملكة العربية السعودية إلا أن الاقتراحات المطروحة لم تعلن.
ويذكر أن النجديين لم يشعروا خلال ذلك بأي تغيير في تنظيمات الدولة لأنه لا وجود لمجلس الوكلاء أو الوزارات في نجد لأنه على مدار العقدين السابقين قبل ضم الحجاز كانت إدارة الأمور تتم من قبل الملك عبدالعزيز مباشرة ولذا لم يكن هناك أي داع لوجود أي وزير أو وزارة نظرا لأن ظروف وجودهما غير مواتية بسبب طبيعة إدارة الحكم في نجد، أما في الحجاز فنائب الملك هو الذراع الأيمن للملك هناك بل إنه دائما أصبح رئيس مجلس الوكلاء ورئيس مجلس الشورى ووزير الخارجية، وعلى الجانب الآخر نجده في بعض الحالات يتصرف كما لو كان ليس نائبا على الحجاز فقط ولكن على المملكة كلها، فهذا يتعلق بطبيعة الأحوال الاقتصادية والاجتماعية.
الحكومة المركزية في نجد وملحقاتها
خصص نلينو الفصل الخامس للحديث عن الحكومة المركزية لنجد وملحقاتها فذكر أن أمر توحيد الأنظمة السياسية والإدارية المنصوص عليه في إعلان توحيد المملكة العربية السعودية ظل مدة طويلة دون تفعيل وهو ما جعل نجدا وملحقاتها تسير على النظام التقليدي القديم دون قواعد دقيقة وتشكيلات منظمة، ولكن يمكن القول إنه في ظل حاكم متمكن يتميز بالذكاء والحيوية والشخصية القوية مثل الملك عبدالعزيز فإن أي شيء يمكن أن يحل بحكمته وتدبيره الذي يتخطى بهما أي ازدواجية أو تعارض في الاختصاص وأي عائق تنظيمي لا ينتهك قواعد الشريعة. فالحكومة في نجد هي ذاتها البلاط الملكي الذي له نظام إداري مركزي يديره الملك بكل سهولة واقتدار. كان البلاط في تلك الفترة يضم 16 شعبة وهي: الشعبة السياسية والديوان الملكي، وشعبة الجفر والبرقيات، وشعبة البادية وداخلية نجد، وشعبة الزكاة وبيت المال، وشعبة المحاسبة والأعطيات، وشعبة الوفود والضيافة، وشعبة الخاصة الملكية، وشعبة أهل الجهاد، وشعبة الخزينة الخاصة، وشعبة المخازن الخاصة، ورئاسة الحاشية، ورئاسة الخيل، ورئاسة الجيش، وشعبة السيارات، ومقرئ القرآن والمؤذن. وفي حالة وجود الملك خارج نجد فإن صلاحيات الإدارة العادية تترك لولي العهد الأمير سعود.
الحكومة المركزية في الحجاز
أما في الفصلين السادس والسابع فتناول فيها نلينو الحكومة المركزية بالحجاز وكما ذكرنا سابقا فإن النائب العام كان يقوم بأعمال وزارة الداخلية بحكم منصبه كرئيس لمجلس الوكلاء، وكان هناك وزارتان أخريان هما: وزارة الخارجية ووزارة المالية، ولا شك أن استخدام مصطلح "مجلس الوكلاء" رغم وجود وزراء ووزارات قد يوحي بشيء من التناقض ولكنه مصطلح إداري متداول في عدد من الدول وقد يكون من تركة الحكومات الماضية، على أن وجود ثلاث وزارات فقط في تلك الفترة يعني بكل تأكيد وجود أجهزة إدارية رئيسة أخرى تحت اسم مديريات أو إدارات عامة.
وذكر أن مجلس الوكلاء كان مكونا من رئيس المجلس، ووزير المالية، ووكيل وزارة الخارجية، ووكيل وزارة المالية والنائب الأول لرئيس مجلس الشورى وعضو سادس عندما يوجد الملك بالحجاز يشارك في جلسات مجلس الوكلاء بوصفه شخصية سياسية نجدية.
النظام القضائي .. تحكيم الشريعة الإسلامية في مختلف شؤون الحياة
وذكر أن مجلس الشورى حظي دائما بأهمية كبيرة في الإدارة العامة بالحجاز وكان مفيدا جدا فيما يتعلق بالتنظيمات الإدارية، وأشار إلى أن جذور هذا المجلس تعود إلى المجلس الأهلي الذي أسس عام 1344هـ/1925، على أنه عندما تولى الأمير فيصل رئاسة الحكومة المؤقتة التي شكلها الملك عبدالعزيز في الحجاز في 13 يناير 1926 كلف بمعاونته في أعماله مجلس استشاري مكون من ثلاثة أعضاء. وفي عام 1345هـ / 1926 دمج المجلس الاستشاري في المجلس الأهلي، فيما صدرت بعد أسابيع قليلة "التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية" التي نصت على تأسيس ومهام "مجلس الشورى" للحجاز ثم صدر بعد مدة قصيرة أمر ملكي بتغيير المواد (28 و37) من التعليمات الأساسية ليصبح المجلس بجانب النائب العام مكون من ثمانية أعضاء يتم اختيار أربعة منهم بعد مشورة أهل الفضل والخبرة ويتم اختيار أربعة من الحكومة بمعرفتها، ومن هؤلاء الأربعة يجب أن يكون اثنان من أهل نجد، وللملك الحق في حل المجلس وتغيير أو عزل أعضائه. ثم صدر نظام جديد لمجلس الشورى بتاريخ 25 محرم 1347 هـ / 13 يوليو 1928 وتم تطبيقه.
ويرى نلينو أن مجلس الشورى كان وسيكون له في المستقبل دور كبير في تطوير الحجاز، ويذكر أن التقارير التي كانت ترفع للملك في نهاية كل دورة برلمانية تظهر حجم وأهمية أعمال المجلس والقضايا المتناولة، ويستشهد على ذلك بأنه في آخر دورة (1355-1356هـ/ نهاية مارس 1936- فبراير 1938) كان من بين المسائل المناقشة "النظام السياسي للمملكة العربية السعودية" و"نظام الإقامة للأجانب" و"نظام الجنسية السعودية" و"نظام المدارس الحكومية" وغيرها. كما لاحظ عرض بعض الشؤون النجدية على المجلس، على سبيل المثال: في دور المجلس عام 1355 هـ مارس 1936- مارس 1937) تمت مناقشة ميزانية "بعض المدارس الجديدة بنجد والأحساء". ويقول نلينو إنه في ظل سلطة رجل موثوق به وحكيم ومتحمس بصدق ألا وهو الملك عبدالعزيز، لا يمكن الشعور بأي عيوب نظرية في نظام المجلس أو تشكيله.
وكالة الدفاع
يتحدث نلينو في الفصل الثامن عن وكالة الدفاع التي كانت آنذاك تحت مسؤولية وزير المالية عبدالله بن سليمان الحمدان وذكر أنها تنقسم إلى خمس شعب هي: 1- القوات المسلحة، 2- المعاملات الذاتية، 3- قسم المحاسبة والإعاشة واللوازم والمبيعات، 4- قسم التحرير، 5- قسم الشؤون الطبية. ويؤكد أن الخدمة العسكرية ليست إجبارية فالجيش مكون من المتطوعين إلا أنه في حال الحرب يتم استدعاء جميع سكان المنطقة من عمر 14 إلى 65 سنة قمرية للالتحاق بالخدمة الفعلية. بالنسبة للقوات لا توجد مدة معينة لخدمتهم بل يظلون في الخدمة طالما هم قابلون بذلك ومرغوب فيهم. على العكس من ذلك فإن الشرطة وخفر السواحل وجنود القوة النظامية يستمرون في الخدمة لعدد محدد من الأعوام. وأشار إلى أن عدد القوات المسلحة حسب مذكرة أعدتها الحكومة السعودية بتاريخ 24 يناير 1932 لتقدم إلى مؤتمر نزع السلاح بواسطة السكرتير العام لعصبة الأمم، بلغ 734 ضابطا و43437 فردا، إلا أن عدد أفراد الشرطة وحرس الحدود والقوات النظامية تضاعف بعد هذه المذكرة حسب ما ذكره فؤاد حمزة.
فيما يشير إلى أن الزي العسكري للقوات النظامية يختلف عن زي الشرطة، فهو ذو طابع عربي تماما: فالجزء الخارجي المرئي هو ثوب بأكمام طويلة وجيوب عميقة على الجانبين ويتوسط الجسم حزام عريض من الجلد يحتوي على الذخيرة إضافة إلى غترة بيضاء مثبتة عن طريق الشطفة أو العقال وكأنها التيجان على الرؤوس.
وأشار أن الحكومة السعودية أولت الطيران الحربي اهتماما كبيرا رغم ضعف الموارد المالية للدولة، وفي عام 1348هـ / 9 يونيو 1929- 28 مايو 1930 تم التفكير في تأسيس مدرسة لإعداد طيارين وطنيين، إلا أن المشروع لم يتم، بينما أنشئ مطار حربي بجدة، إلا أنه نقل إلى الطائف عام 1934. بعد ذلك بقليل أرسلت الحكومة السعودية 14 شابا إلى إيطاليا لتعلم الطيران المدني والحربي، فانطلقت البعثة من مكة في الخامس من ذي الحجة 1353هـ / 9 فبراير 1935. وفي سبتمبر من عام 1936 أسست مدرسة الطيران تحت قيادة النقيب الإيطالي جوفاني تشكو Giovanni Ciccu في الكندرة بجدة وأقيمت حظيرة مغطاة تتسع لنحو 25 طائرة. وبالتالي فإن مطار الطائف تم هجره عمليا، وفي النصف الثاني من عام 1936 تم أنشئ مطار الرياض. أما بالنسبة للطيران المدني فذكر أن أول خط طيران كان بين جدة والمدينة المنورة في موسم حج 1354هـ وكان يخدمه طائرة واحدة تستغرق رحلتها ساعتين واضطلع بتشغيله طلعت حرب باشا مدير بنك القاهرة الداعم لشركات تجارية وصناعية كثيرة.
المديريات العامة
ثم تحدث في الفصل التاسع عن المديريات العامة التي كانت قائمة آنذاك فذكر أنها ست مديريات هي مديرية الصحة ومديرية البحرية والكورنتينات ومديرية الشرطة ومديرية الأوقاف ومديرية المعارف ومديرية البريد والبرق واللاسلكي وعرف بكل مديرية بالتفصيل.
فيما تناول في الفصل العاشر الدوائر التابعة لوزارة المالية فأشار إلى إدارة السيارات ومكتب التعدين ومكتب الحج والدعاية ولجنة الحج والمطوفين ومكتب الطرق ودائرة البندرول وإدارة الكنداسات وإدارة الجمارك.
الإدارة المحلية في نجد وملحقاتها
يرى نلينو أن سكان المملكة العربية السعودية خاصة سكان نجد نظرا لطبيعة الحياة والثقافة ينقسمون عامة إلى فئتين: السكان المستقرون (الحضر) والسكان الرحل أو شبه الرحل (البدو) ويرى أن صعوبة إدارة الفئتين بطريقة واحدة أدى إلى وجود شكلين مختلفين تماما في الإدارة المحلية بالمملكة: أحدهما يقوم على الإقليم والآخر يقوم على القبيلة، فالقبيلة البدوية تخضع لتقاليد متوارثة في رئاستها، وشيخ القبيلة عادة ما يلقب بالاسم الأكثر وجاهة وهو الأمير، إلا أن التنصيب النهائي لهذا الشيخ بعد ولاية الملك عبدالعزيز لا يتم إلا بأمره خاصة بعد قيام مشروع الهجر أو توطين البادية، وكذلك الأمر بالنسبة لمعظم البلدان والأقاليم النجدية فلا يتم تعيين أمير يدير شؤونها إلا عن طريق الملك كما أن كل إمارة كبيرة في نجد تنقسم إلى إمارات أصغر، على أنه لا يوجد كبير فرق بين شكلي الإدارة المحلية في نجد.
وبالنسبة لنجد وملحقاتها في تلك الفترة فلا يوجد أي قواعد مكتوبة بالنسبة للنظام الداخلي أو الهيئات الإدارية المحلية، فكل شيء يعتمد على توجيهات الملك وهو الذين يعين الأمراء ويعزلهم وقرارات تعيينهم عادة غير محددة المدة. ولكن للأمراء صلاحيات واسعة ومتعددة بالنسبة لتنظيم مناطقهم الإدارية بناء على تعليمات الملك العامة أو الخاصة في أي شأن من الشؤون الإدارية والمالية والعسكرية، ووفقا لقواعد الشريعة الإسلامية. ويمكن أن يقوم أي مواطن برفع شكوى إلى الملك مباشرة ضد الأمير أو أي مسؤول آخر في كل مكان وزمان.
ويلاحظ في نجد وملحقاتها أن السلطة في إمارات الأقاليم بيد الأمير وفق صلاحياته الممنوحة من الملك، أما في النواحي والبلدان فهي عامة تتوزع بين الأمير والقاضي الشرعي ووكيل بيت المال كل في اختصاصه وكلهم قد يتلقى توجيهات خاصة من الملك وإن كان الأمير هو المسؤول الأول أمام أمير الإقليم وأمام الملك، ويعدد نلينو الإمارات الكبرى في نجد وملحقاتها في تلك الفترة على النحو التالي: 1- إمارة الرياض وتشمل الرياض والخرج والحوطة والحريق والشعيب والمحمل وسدير والوشم والأفلاج ووادي الدواسر وترتبط بها آنذاك أيضا تربة والخرمة ورنية وبيشة. 2- إمارة القصيم وتشمل بريدة وعنيزة والرس والمذنب، 3- إمارة جبل شمر وتشمل حائل وتيماء، 4- إمارة وادي السرحان وتشمل الجوف وقريات الملح، 5- إمارة عسير وتشمل أبها وظهران وقحطان وشهران ورجال ألمع ورجال الحجر وبني شهر ومحائل وبارق، 6- إمارة نجران وتشمل بدر وحبونة، 7- إمارة تهامة وتشمل جيزان والشقيق وصبيا وأبوعريش وسامطة، 8- إمارة الأحساء وتشمل الأحساء والقطيف والجبيل وقرية.
الإدارة المحلية في الحجاز
عندما اكتمل ضم الحجاز للدولة السعودية في ديسمبر 1925، حينها كانت توجد أنظمة إدارية تعود للحكومات السابقة، ولم يكن من الممكن إلغاؤها لأسباب متعددة فكانت الإدارة المحلية في المنطقة ترتكز على مجالس تسمى "مجالس الإدارة" إضافة إلى البلديات ومجالس البلديات. لذلك فإن التعليمات الأساسية الصادرة عام 1926 نصت في المواد 32- 34 و36-37 على تأسيس مجلس إدارة في كل من جدة والمدينة مكون من قائم مقام ومعاون ومن رؤساء المأمورين وأربعة من ذوي اللياقة والاقتدار يجري تعيينهم من قبل الملك كل عام، ويختص المجلس بالنظر في المسائل الخاصة بشؤون المدينتين المحالة إليه واتخاذ القرارات بشأنها، فيما يقوم النائب العام للحجاز بعرض مقررات المجلسين على الملك للمصادقة عليها ومن ثم تطبيقها. كما نصت التعليمات الأساسية على تأسيس مجلس الناحية (مواد 38-40) ومجالس القرى والقبائل (مواد 41-42). فيما استمر وجود البلدية والمجالس البلدية في مكة وجدة والمدينة والطائف وكذلك ينبع. وأنشأت الحكومة كذلك هيئات خاصة مستقلة للعناية بإمدادات المياه إلى مكة والمدينة وجدة مثل هيئة عين زبيدة هيئة عين الوزيرية وهيئة عين الزرقاء.
ولكن الحكومة السعودية وضعت تقسيما إداريا مختلفا عن تقسيمات الحكومات السابقة يعتمد في أعلاه على وحدة إدارية تسمى (الإمارة) في كل البلدان والنواحي، فيما عدا جدة يوجد فيها (قائمقامية)، وكرجعها جميعا النائب العام، فيما يمكن تعداد إمارات الحجاز على النحو التالي: ضبا، الوجه، أملج، ينبع، رابغ، الليث، القنفذة، الظفير، الطائف، المدينة، العلا، تبوك إضافة إلى مكة المكرمة مقر الحكومة المركزية التي يشرف على شؤونها الثلاثة النائب العام فيما يتعلق بالشؤون المدنية، أما فيما يتعلق بشؤون البادية فيشرف عليها شخص يسمى قائم مقام العاصمة، وجدة التي يقوم بإدارتها قائمقام أيضا.
النظام القضائي
من بين المبادئ التي قامت عليها الدولة السعودية في أدوارها الثلاثة مبدأ تحكيم الشريعة الإسلامية في مختلف الشؤون ونبذ ما سواها عامة، فالقاضي الشرعي في نجد يحكم في الدعاوي، من أي نوع، وفي كل قضية يحيلها له الحاكم أو الأمير. وعادة يبلغ الحكم للطرفين المتنازعين شفهيا، وكذلك يبلغ الحكم للأمير بالطريقة نفسها لأنها الجهة المنوط بها تنفيذ الأحكام الشرعية، مع العلم أن القاضي يتقاضى راتبا من الخزانة العامة للدولة. وعلاوة على هذا فإن من واجبات القاضي عادة إلقاء الدروس الدينية والقيام بالإمامة والخطابة والموعظة للناس عامة.
أما في الحجاز فإن الحكومة السعودية وجدت فيه بعد ضمه أنظمة قضائية متقدمة عملت على وفقها الحكومات السابقة فاحترمتها بشكل كبير فهناك للمحاكم ثلاث درجات هي: المحاكم المستعجلة، والمحاكم الكبرى، وهيئة المراقبة القضائية، ورئيس المراقبة القضائية يسمى رئيس القضاة وهو يشرف على جميع محاكم وقضاة الحجاز وهو صلة الوصل بين الحكومة والمحاكم. وفي عام 1932 تم استحداث منصب مفتش المحاكم ووظيفته هي القيام بالتفتيش على أعمال المحاكم وسير القضايا ويضع التقارير عن تنظيم الشؤون الإدارية بمحاكم الحجاز المختلفة. وعامة فإن تنفيذ الأحكام الصادرة بالقطع والقتل يقتضي اقترانها بتصديق ولي الأمر، ويكون تنفيذ القصاص بمعرفة السلطة التنفيذية.
وفي عام 1347هـ استحدثت وظيفة كتاب العدل ومهمتهم هي: عمل التوكيلات القضائية وتسجيل الإقرارات القضائية والهبات والوصايا وتسجيل جميع أنواع العقود فيما عدا ما يتعلق بمسائل الأوقاف فهو من اختصاص المحاكم، وهذا بمحاكم مكة وجدة والمدينة، أما في الملحقات فيقوم رؤساء كتاب المحاكم أو القضاة أنفسهم بوظائف كتاب العدل.
تجارب وملاحظات شخصية في الطريق إلى جدة
ويشير نلينو إلى أن الملك عبدالعزيز فكر في تأسيس مجلة لأحكام الشريعة، لكن هذا المشروع الجريء الذي كان يرتكز بوضوح على مبدأ الاجتهاد المعتمد على مذهب الإمام أحمد بن حنبل صرف النظر عنه بسبب معارضة علماء نجد الذين عدوا الأمر بمنزلة هجر لنصوص القرآن والسنة.
وضمن حديثه عن النظام القضائي في المملكة العربية السعودية أشار إلى المجلس التجاري المؤسس في جدة سنة 1345هـ واختصاصه بعلاقات التجار وخلافاتهم وقضاياهم.
في الجزء الثاني من (larabia sa`udiana) نجد معلومات عن المملكة العربية السعودية وأحوالها الاجتماعية والثقافية عام 1938 في 21 فصلا وتشمل الحدود والمساحة والسكان، والقبائل، والدين، وقانون العقوبات، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والزكاة، والأوقاف، والمؤسسات الخيرية، والهجر، والإخوان، والعقود الزراعية، والرق، والمدارس، والمكتبات، والصحف، والحج، والأجانب، والعلاقات مع الخارج، والعملات، ومجمل معلوماته منقولة عن المصادر خاصة مؤلفات فؤاد حمزة وحافظ وهبة والريحاني وقد لفت نظري في الفصل الـ16 الذي خصصه للشعراء والأدباء والعلماء ترجمته لأكثر من 20 أديبا نقلا عن كتاب (وحي الصحراء) وهم: أحمد الغزاوي، وأحمد السباعي، وأحمد العربي، وأحمد قنديل، وأمين بن عقيل، وحسين خزندار، وحسين سرحان، وحسين سراج، وعبدالوهاب آشي، وعبدالقدوس الأنصاري، وعبدالحق النقشبندي، وعبدالله بلخير، وعلي حافظ، وعمر صيرفي، وعزيز ضياء، وعبدالسلام عمر، وعمر عرب، وعبدالحميد عنبر، ومحمد سرور الصبان، ومحمد سعيد العامودي، ومحمد حسن فقي، ومحمد حسن كتبي، ومحمد نصيف. وفي فصل الحج أشار نلينو إلى أنه رغم كثرة الكتابة عن الحج ورحلاته إلا أنه يستغرب عدم تفكير أي مؤلف في تخصيص جزء من كتابته للحديث عن جدة، وحتى لا يكرر سرديات الآخرين فقد تناول تجاربه وملاحظاته الشخصية أثناء إقامته بجدة.
إذ لاحظ مثلا أن جدة أثناء أيام الحج تبدو وكأنها مدينة مهجورة من السكان، إلى درجة أن أغلب متاجر السوق كانت مغلقة، وكان فندق مصر بلا خدمة تقريبا، ثم إن المدينة تمتلئ فجأة وترجع إليها الحركة بعد عودة القادمين من مكة. وذكر أن مناديا في تلك الأيام كان يطوف بشوارع المدينة معلنا أسماء السفن المغادرة في اليوم التالي ووجهتها، وفي الصباح تمر الشاحنات بالطرق لحمل حقائب المغادرين في اليوم نفسه. وذكر أن الحجاج كانوا يصلون إلى السفينة عن طريق مراكب شراعية بينما كانت تقوم المراكب الشراعية الأخرى بنقل حقائبهم الكثيرة التي يتم رفعها على متن السفينة عن طريق رافعة، وكان يحمل كل شيء بلا نظام حيث يتعرف الحجاج على متعلقاتهم بأنفسهم بمجرد تحميلها على متن السفينة.
وذكر أنه يمكن للحجاج المتوجهين من جدة إلى مكة أو المدينة ركوب السيارات تاكسي أو لوري أو بوكس على حسب استطاعتهم المادية. أما أولئك الذين لا تساعدهم ظروفهم فكانوا يفضلون الذهاب بالجمال أو بالسير على الأقدام، ويتوقفون في محطات استراحة الحجاج على الطريق حتى يصلوا إلى وجهتهم، وأشار إلى أن من بين الهدايا التي يحضرها الحجاج من مكة لإهدائها إلى الآخرين أو للاحتفاظ بها زجاجات من ماء زمزم وكذلك ملايات مغسولة بالماء نفسه لتستخدم فيما بعد كأكفان.
آخر فصول مذكرات نلينو
أما الجزآن الثالث والأخير من الكتاب فقد تضمن حديثا تفصيليا عن جدة وضواحيها أورد فيه معلومات تاريخية نادرة عن جدة تتعلق بالرحالة والمستكشفين الذين زاروها وقاموا بوصفها ومن أوائلهم ابن جبير الأندلسي الذي توقف فيها قي الفترة ما بين الرابع حتى الـ11 من ربيع الآخر 579 هـ / 26 يوليو - 2 أغسطس 1183، والعياشي الذي زارها في النصف الثاني من القرن الـ17 الميلادي. فيما أشار إلى أن أول كاتب أوروبي ذكر جدة هو الإيطالي Niccolò dei Conti الذي مر عليها عامي 1438 أو 1349.
كما أن الإيطالي Fra Mauro ذكرها في خريطة العالم باسم "Zidde" في نحو عام 1459. وزارها أيضا Ludovico de Varthema عام 1503 أو 1504 وخصص لها فصلا في كتاب رحلته المنشور تحت عنوان Itinerario لكنه سماها Zida، وفي عام 1517 مر عليها بحرا إيطالي آخر هو Andrea Corsali وكتب عنها في خطاب له فقال: Zidem هي مدينة بشبه الجزيرة العربية الصحراوية تقع على خط عرض 22 درجة ونصف، وهي ميناء لمكة، ويسميها المسلمون بالأرض المقدسة مثل مكة ومدينة النبي. وفي عام 1762 زارها الدنماركي Niebuhr وأقام بها شهر ونصف ثم خصص لها كثيرا من الصفحات في كتابه "رحلة في شبه الجزيرة العربية". أما في القرن الـ19 قام عديد من الرحالة الأوروبيين الذين زاروا المدينة، نذكر من بينهم J. L. Burckhardt وقد زارها عامي 1814 و1815، وزارها E. Rüppel في الفترة ما بين أكتوبر 1826 حتى مايو 1827 ثم مرة أخرى في نهاية يوليو لعام 1831، وكانت زيارة Tamisier عام 1834، وزارها R. F. Burton عام 1853، و Ch. Didier عام 1854، و H. von Maltzan عام 1870. وأشار نلينو إلى أنه كان يوجد بها مصنع فرنسي في القرن الـ18 كما يؤكد Burton، ويضيف أن Bruce وجد في جدة عام 1760م شركة East India Company. ولم يستطع Burton إيجاد وثائق تتعلق ببداية القنصلية الإنجليزية بجدة. وذكر Flug. Fresnel عام 1837 وجود القنصلية الفرنسية، وكذلك بريطانيا كان لها هي الأخرى منذ وقت بعيد نائب قنصل، وفي عامي 1853 و1854 عين Charles Cole في هذه الوظيفة وكان موظفا تجاريا بشركة الهند وقد قام بعمل مميز.
وأشار نلينو إلى حدوث نزاع بين القنصلية البريطانية والسلطات المحلية عام 1858 حول إحدى السفن فأدى ذلك إلى فتنة تطورت إلى هجوم في 15 يونيو على كل من القنصليتين الإنجليزية والفرنسية وقاموا بقتل نائب القنصل الإنجليزي Page والقنصل الفرنسي Eveillard وزوجته، خلفت هذه الحادثة وراءها 20 قتيلا معظمهم من اليونان و26 جريحا من بينها ابنة القنصل الفرنسي ومترجم القنصلية الفرنسية وكلاهما كانت إصابته خطيرة وتم إنقاذهما عن طريق سفينة إنجليزية، تسمى Cyclops، كانت موجودة بالميناء. بعد هذه الأحداث قامت سفينة حربية إنجليزية بقصف جدة في 25 يوليو، ثم بعد هذا انعقدت محكمة مكونة من أتراك وفرنسيين وإنجليز في المدينة وقررت معاقبة المتهمين.
كما تحدث في الفصل الثاني عن الخطوط البحرية التي تربط جدة بمصر عن طريق خطين بحريين: أحدهما الشركة المصرية Pharaonic Mail Line وتغادر سفنها البخارية السويس وتستغرق أربعة أيام للوصول إلى جدة، وتمر بالتناوب على موانئ الوجه والطور وينبع، وبعد جدة تغادر السفن لتصل إلى بورتسودان. والخط الآخر، الخط الإيطالي Lloyd Triestino الذي يغادر من السويس ويصل جدة في غضون ثلاثة أيام تقريبا ثم تتجه إلى بورتسودان ومصوع. وفي الفصل الثالث تناول ميناء جدة ثم تحدث في الفصل الرابع عن المظهر العام للمدينة وفي الخامس عن سور المدينة وبواباتها ثم في الفصل السادس عن المباني العامة والمساجد والسابع عن السوق والثامن عن الفنادق وذكر أنه يوجد بجدة فندقان، أحدهما فندق جدة Hotel of Jeddah وهو ملك جميل أفندي جوخدار، والفندق الآخر وهو الفندق الأكبر والأجمل هو فندق مصر ومبنى الفندق ملك يوسف زينل أغنى تاجر بجدة، أما في الفصل التاسع فقد تناول مقبرة الخواجات وأورد بشأنها معلومات تاريخية مهمة، كما تحدث في الفصل العاشر عن القبر المنسوب لأمنا حواء، ثم تحدث في الفصل الـ11 عن إمدادات المياه، أما الفصل الـ12 فقد خصص للحديث عن بيت الشيخ محمد نصيف وجاء تحت عنوان (داخل بيت عربي)، فيما تناول الفصل الـ13 رحلة نلينو وابنته ماريا من جدة إلى الطائف وهذه الرحلة تحتاج إلى مقالة خاصة ليس هذا محلها. وختاما فإني أسدي جزيل الشكر والتقدير للدكتور عبدالرحمن الخنيفر الذي لفت نظري إلى هذا الكتاب المهم وزودني بنسخة منه، ومن البشائر الجميلة أن إحدى الدور تعمل الآن على ترجمته ونشره.