كيف تشارك السعودية في تشكيل مستقبل العالم؟
لم يكن التاسع من سبتمبر الماضي يوما عاديا، فبعد صيف حار وجد سكان نيودلهي متنفسهم في الأزقة والميادين العامة من أجل الكريكيت وغيرها من الألعاب الشعبية، كما أصبح بإمكان كبار السن الخروج للاستمتاع بشمس حانية، لكن على الجهة الأخرى كانت السلطات الأمنية مستنفرة بسبب مهمة تأمين رفيعة المستوى، رفعوا على إثرها درجات الاستعداد وطوقوا المباني المهمة بسيارات الحماية، فيما اصطف الجنود بموازاة نهر جمنة العريق، آملين أن تنتهي قمة مجموعة العشرين الـ(18) بأفضل صورة، ولا سيما أن الهند تحتضنها للمرة الأولى في تاريخها.
لكن نيودلهي التي استضافت تلك القمة المحورية، كانت على موعد أهم مع قرار تاريخي، إذ أصبحت هي العاصمة التي منها انطلق "مشروع القرن"، الذي عده اقتصاديون طوق نجاة من الأزمة العالمية الطاحنة، وعده دبلوماسيون بشرى سارة لتعاون دولي خال من الرصاص والبنادق هذه المرة، فيما ذهب الساسة إلى أن تلك القمة نواة لعالم جديد يتشكل بعد الحرب الروسية - الأوكرانية.
تفاصيل المشروع، كشف عنه عراب الرؤية السعودية، الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، حين أعلن خلال القمة الـ18 عن ممر اقتصادي يبدأ من الهند ثم الإمارات وبعدها السعودية فالأردن، حتى يصل إلى أوروبا، وبحسب صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية، فإن أهداف هذا التعاون الذي جاء بموافقة قادة مجموعة العشرين، تتلخص في تعزيز الترابط الاقتصادي والمساهمة في تطوير البنية التحتية التي تشمل السكك الحديدية وربط الموانئ وزيادة مرور السلع والخدمات وتعزيز التبادل التجاري بين الدول المعنية، إضافة إلى مد خطوط أنابيب تصدير واستيراد الكهرباء والهيدروجين لتعزيز أمن إمدادات الطاقة ونقل البيانات عبر شبكة عابرة للحدود.
وبعيدا عن أرباح المشروع اقتصاديا، ثمة دلالات سياسية كانت هي الأهم، أولها أنه من النادر أن يعقد اجتماع عالمي يكون المقصود منه مشاريع تنموية وتحسين جودة حياة الناس وتأمين مستقبلهم، وثانيا أن القرارات العالمية صارت تصدر من مجموعة العشرين، وليس الأمم المتحدة كما جرت العادة خلال القرن الماضي على الأقل، وهو ما يعني أن "جي 20" صارت ممثلا حقيقيا لدول العالم الكبرى، وراسمة خريطته المستقبلية، أما ثالثا والأهم، فهو لأول مرة يكون بين القوى العظمى دولة عربية، هي السعودية التي تحمل آمال العرب جميعهم في "نادي الكبار".
تلك المحاور الثلاثة، دفعت الكاتب غسان شربل، رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط، إلى القول إن مجموعة العشرين في قمتها الأخيرة، رسمت المستقبل الحقيقي من خلال التقدم والتطور التكنولوجي ومحاربة الفقر، وظهر جليا أن العالم يجتاز مرحلة انتقالية مثقلة بالتحديات، والأهم، والحديث ما زال لـ"شربل"، أن المواطن العربي لم يعد عليه التكيف مع عالم يصنعه الآخرون، لأنه انتزع حق المشاركة عبر دور السعودية التي نجحت في بناء نموذج تقدم في إطار رؤية 2030، وهو ما أهلها لبناء شراكات استراتيجية مع اللاعبين الكبار.
ما قاله "شربل" لم يكن غريبا، ففي أوقات الخراب العالمي كانت السعودية دوما هي اليد التي تعمر وتغرس الأشجار، ومنذ 2015 صار هذا المسلك أكثر وضوحا من خلال استراتيجية متكاملة رفعت فيها المملكة لواء الإنسانية أولا، ولأن ترتيب البيت من الداخل هو القاعدة لأي انطلاق، وفي وقت كانت تجتاح بعض دول الوطن العربي اضطرابات خطيرة، كانت المملكة بقيادة الملك سلمان والأمير محمد بن سلمان ولي العهد -حفظهما الله- ترسم المستقبل لأجيالها الشابة بوساطة رؤية شملت جميع نواحي حياتهم وطرق تحسينها، بداية من اقتصاد قوي غير معتمد على النفط، ووصولا إلى الحق في استنشاق هواء نقي.
بالتزامن مع نجاحات رؤية 2030، وتحقيقها خطوات ملموسة، كان دور السعودية العالمي يتنامى حتى 2019، حين اجتاح العالم فيروس كورونا، واضطرت دول كثيرة إلى إغلاق حدودها حفاظا على مواطنيها، لكن هناك دولا رفضت وفضلت تفادي الخسائر الاقتصادية على حساب صحة مواطنيها، وبعيدا عن أن المملكة لم تتردد في الحفاظ على حياة مواطنيها والمقيمين وحتى مخالفي الإقامة لأنظمتها. آنذاك أغلقت الحدود وطبقت خطة صحية أشادت بها دول العالم، لكن عالميا كان دور السعودية هو الأبرز من خلال دعم منظمة الصحة العالمية بقيمة 100 مليون دولار لتقديم خدمات جيدة للمواطنين في البلاد الفقيرة، وهو الموقف الذي دفع تيدروس أدهانونم رئيس منظمة الصحة العالمية إلى التعبير عن امتنانه لدور الرياض في بيان رسمي.
رغم ذلك، كان الاختبار الحقيقي للمملكة هو موسم حج 2020، إذ راهنت دول كثيرة أن السعودية ستؤثر إقامة الشعيرة المقدسة في إيراداتها الكبيرة، لكن رغم ذلك وما ينتج من استقبال ما يقرب من مليوني حاج، ضربت المملكة المثل بالتضحية بكل ذلك مقابل صحة المسلمين، فاقتصرت في الحج على المقيمين داخلها وباشتراطات صحية صارمة أدت إلى عدم تسجيل أي إصابة في هذا العام.
من الحفاظ على صحة الإنسان إلى رسم مستقبل له، لم تتوقف المسيرة، لكن تلك المرة من خلال مواجهة آثار التغيرات المناخية التي سجلت فيها السعودية العلامة الكاملة، فبعد اجتماع تم عام 2021 مع روسيا والصين وأمريكا، أطلقت المملكة مبادرة السعودية الخضراء ثم مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، والمبادرتان تستهدفان زراعة 50 مليار شجرة منهم عشرة مليارات شجرة في السعودية وحدها، إضافة إلى تقليل الانبعاثات الكربونية بنسبة 60 في المائة على أن تصل إلى صفر في 2060، ووسط دول تغنت كثيرة بأنها عظمى وتعمل من أجل الإنسانية، كانت السعودية وحدها من خططت ونفذت ولا تزال تطور التجربة.
بالطبع لم تكن تلك سوى رؤوس موضوعات لمشاريع كبرى، تزامنت معها جهود أخرى، مثل الاجتماعات الدولية لإقرار السلام العالمي كما حدث في قمة جدة أخيرا، وجهود الإعمار والإغاثة كما حدث أيضا مع زلزالي تركيا والمغرب، والآن مبادرة عالمية تعمل على تحسين حياة الناس بداية من الهند وحتى أوروبا مرورا بدول الخليج العربي، وهكذا لم يعد مجال للسؤال عن كيف أصبحت السعودية أعظم قصة نجاح في القرن الـ21 كما أوضح الأمير محمد بن سلمان في لقائه مع قناة فوكس نيوز منذ أيام -لكون الإجابة- أصبحت كذلك لأنها لم تفكر سوى في الإنسان السعودي أولا، ومواطني العالم ثانيا، ووضعت كل الاعتبارات الأخرى لاحقا، تلك وصفة اقتصادية لا يقدر عليها سوى لاعب ثقيل.. ثقيل حقا.