اقتصادات اتخذت لنفسها لونا يميزها

اقتصادات اتخذت لنفسها لونا يميزها
اقتصادات اتخذت لنفسها لونا يميزها

تعدى الكلام في الاقتصاد عوالم الأرقام والبيانات والمؤشرات والنسب المتراوحة بين الارتفاع والانخفاض، ليدخل مرحلة التلون بألوان مختلفة بحثا عن حلول مبتكرة وناجعة لأزمات متفاقمة.
تباعا، بدأت تظهر أنواع معينة من الاقتصاد تتخذ لنفسها لونا معينا، اعتبارا للتحدي الذي تعمل على مواجهته، معتمدة في ذلك أساليب تنسجم مع ما يوفره هذا القطاع أو ذاك، من إمكانات ويتيح من فرص.
هكذا تعاقبت الاقتصادات الملونة في الظهور، تبعا لما تشهده المجالات التي تمثل هذه الاقتصادات، فما أن اعتاد العالم على الاقتصاد الأخضر الذي بدأ في التشكل كمفهوم في النصف الثاني من القرن الماضي، قبل أن تعتمد المملكة المتحدة في تقرير رسمي صدر عام 1989، ثم ما لبثت الأمم المتحدة، مع مطلع الألفية الحالية، أن أحاطته بالعناية والرعاية للأزمتين، حد تبني "مبادرة الاقتصاد الأخضر" أواخر عام 2008.
واضح من اللون الأخضر أن هذا الاقتصاد وطيد الصلة بالبيئة، فطموحه الأكبر هو تخضير القطاعات غير الصديقة للبيئة، ما جعل البعض يصفه بالاقتصاد "المنخفض الكربون" لتركيزه على ثنائية الاستغلال الفعال والمستدامة للمواد، والتحفيز على إعادة الاستثمار في الطبيعة بطريقة تخدم النظام الإيكولوجي وتضمن الحفاظ على التنوع البيولوجي.
تدريجيا، فرض هذا الاقتصاد نفسه على الصعيد العالمي، ولا سيما بعد التأكد على أنه مكمل للتنمية المستدامة لا بديلا عنها.
الاقتصاد الأزرق
على غرار الأخضر بدأ الاقتصاد الأزرق الذي يعرف بكونه "الاستخدام المستدام لموارد المحيطات من أجل تحقيق النمو الاقتصادي، مع الحفاظ على النظام البيئي للمحيطات"، يتغلل على أوسع نطاق في السياسات والبرامج الحكومية، بعدما تبين أنه طوق النجاة لما يطرحه من إدارة مثلى للنظم البحرية، بما في ذلك مختلف الأنشطة الاقتصادية القائمة في البحار وداخل المحيطات وفي السواحل أو تلك المرتبطة بها، فمن شأن الأخذ بها التصدي لعديد من الأزمات التي تقف في وجه العالم اليوم.
بما في ذلك أزمة الغذاء، فالبحار والمحيطات تضطلع بدور محوري في ضمان الأمن الغذائي، ولا سيما بالنسبة لمجتمعات السواحل، فصيد السمك وحده يوفر 17 في المائة من سلة الغذاء العالمي، فضلا عن مساهمته بنحو 270 مليار دولار سنويا في الناتج الإجمالي عالميا، إضافة إلى أزمة الطاقة، بالنظر لما توفره البحار والمحيطات من إمكانات كبيرة للطاقة المتجددة الزرقاء، الناجمة بالأساس عن حركة الرياح والأمواج والمد والجزر.
بالأرقام، تصل قيمة اقتصاد المحيطات في العالم زهاء 1.5 تريليون دولار سنويا، بذلك سيصبح المحيط، لو تمت معاملته كبلد، سابع أكبر اقتصاد في العالم، بما يوفره سلع وخدمات وفرص اقتصادية تفيد التوقعات بأنها في تزايد، فهذا الاقتصاد مرشح لبلوغ ثلاثة تريليونات دولار في أفق 2030. وتتحدث تقارير عن أن استثمار 2.8 تريليون دولار اليوم في الاقتصاد الأزرق من شأنه يحقق عوائد صافية تصل إلى 15.5 تريليون دولار بحلول عام 2050.
توقعات تسيل لعاب الساسة ورجال الاقتصاد، فقد طرحت الهند مشروع "السياسة الوطنية للاقتصاد الأزرق" بعد مساهمة هذا الاقتصاد بنحو 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، فيما تبنى الاتحاد الأوروبي الاستراتيجية المتعلقة بـ"النمو الأزرق"، بعد أن سجلت قطاعات الاقتصاد الأزرق في الاتحاد قيمة مضافة إجمالية بغلت زهاء 130 مليار يورو عام 2020، بربح بلغ 43.6 مليار يورو من إجمالي مبيعات وصلت 523 مليار يورو، وفقا لتقرير "الاقتصاد الأزرق الأوروبي".
الاقتصاد البنفسجي
قياسا إلى الاقتصادين السابقين (الأخضر والأزرق) يعد الاقتصاد البنفسجي حديثا نسبيا، فالاهتمام العالمي به انطلق مع المنتدى الدولي الأول للاقتصاد البنفسجي أكتوبر عام 2011، بعدما اكتشف العالم الأدوار المهمة للجوانب الثقافية في الاقتصاد. قبل أن يتسع مداه ليأخذ في الحسبان جوانب أخرى جغرافية وإثنية واجتماعية... فمفاهيم مثل المساواة العرقية أو التبادل الثقافي أو الأنثروبولوجيا الاقتصادية مبادئ أساسية في الاقتصاد البنفسجي.
بذلك يكون هذا المجال اقتصادي الجديد مسهما في التنمية المستدامة من خلال ثمن العائد الثقافي للسلع والخدمات، فالبعد الثقافي محور هذا الاقتصاد الذي يؤسس لتحالف بين الاقتصاد والثقافة سعيا وراء حلم أو مشروع "أنسنة العولمة". وذلك من خلال قطبي هذا الاقتصاد: الأعمال البنفسجية، وهي كل ما يرتبط بشكل مباشر بالمحيط الثقافي، والمهن البنفسجية، ويقصد بها تلك الوظائف التي تتكيف مع الثقافية.
رغم أن الهدف عالمي، ممثلا في الرسالة الثقافية التي تمنح كل مجتمع الفرصة لتقديم ما يملكه أمام أنظار العالم، حتى يظهر مميزا وفريدا مقارنة بـالآخرين، لتعزيز قيم الاختلاف والتباين، فالانصهار والذبان دليل على فقدان القيمة. يبقى هذا الاقتصاد نموذجا للاقتصاد الإقليمي، من خلال العودة إلى البيئات المحلية حيث تتمتع المناطق التي تحافظ على هويتها الأصلية، التي تميزها عن غيرها، بميزة تنافسية حقيقة في هذا الاقتصاد.
يبقى هذا الاقتصاد طريق الثقافات المحلية الأمثل نحو اكتساب الاعتراف الدولي، ما أسهم في بروز الجمع بين العولمة والتوطين، بعدما أضحت الشركات مهتمة بأن تكون منتجاتها وخدماتها ملائمة للاعتبارات المحلية والعالمية، فالاستجابة لرغبات المستهلكين قائمة وبالموازاة معها ثمة حرص على تعزيز الإمكانات الثقافية للسلع والخدمات.
اهتمت كوريا الجنوبية مبكرا بهذا الاقتصاد، فقد اعتمد اتفاقية لحماية وتعزيز التنوع في أشكال التعبير الثقافي عام 2005، ويراودها طموح بأن تصبح مصنع العالم في الثقافة الشعبية. تفيد الأرقام بأنها في الطريق، فصادرات البلد في المنتجات الثقافية برسم عام 2021 مثلث 7.04 مليار دولار مقابل 4.66 مليار دولار لسلع الاستهلاكية.
الاقتصاد الأبيض
يعد الاقتصاد الأبيض أكثر ألوان الاقتصاد حداثة، ويطلق على الاقتصاد الرقمي الذي يركز على البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات، باعتبارها ظاهرة سريعة النمو تعمل على تغيير كافة الأنشطة الاقتصادية، بدمج البيانات والإنترنت في مختلف مراحل عمليات الإنتاج، فضلا عن تغيير أنماط الاستهلاك للأفراد والحكومات معا، بشكل يسهم في تحقيق مكاسب اقتصادية على مستوى الاقتصاد.
يبقى هذا الاقتصاد، وفقا لأحدث تعريفات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، هو الاقتصاد الرقمي الذي يشمل جميع الأنشطة الاقتصادية التي تعتمد على استخدام المدخلات الرقمية أو تعززها بشكل كبير، بما في ذلك التقنيات الرقمية والبنية التحتية الرقمية والخدمات الرقمية والبيانات.
نحت هذا المفهوم في مدينة لندن أواسط عام 2015 على يد الأكاديمي دوغلاس ماك ويليامز، حين اختار أن يضعه عنوانا لكتاب "الاقتصاد الأبيض المسطح"، سرد فيه جوانب من الاقتصاد الرقمي، شارحا كيف انعكس هذ الاقتصاد بوضوح على عاصمة الضباب. فبحسب الرجل، وخلافا لسردية القائلة بالعداء بين الرقمنة وسوق الشغل، ضاعف الاقتصاد الأبيض فرص العمل في لندن، وأسهم في نموها بسرعة كبيرة.
وتيرة الاقتصاد الأبيض كانت متفاوتة بحسب الدول، قبل أن تهب جائحة كورونا فتفرض بقيودها وتدابيرها الانخراط في هذا الاقتصاد، لينخرط الجميع، وعلى وجه الاستعجال، في مشاريع التحول الرقمي، أي دمج التكنولوجيا الرقمية في جميع المجالات، الذي يمثل إحدى الملامح الرئيسة للاقتصاد الأبيض.
استطاع هذا الاقتصاد القائم على التقنيات الرقمية ومنصات التكنولوجيا -رغم حداثة ظهوره- أن يحقق أرقاما ضخمة في وقت وجيز، فالإنفاق العالمي انتقل من تريليون دولار عام 2018 إلى ما يفوق 2.16 تريليون دولار برسم عام 2022. واستطاع أن يرفع حصته السوقية في عدد من دول العالم، فقد بلغت قيمته في الصين عام 2021 ما قدره 45.5 تريليون يوان، وفي إيطاليا أسهم في تحقيق نمو قوي في إجمالي الناتج المحلي بنسبة 10.7 في المائة.
ما أكثر الاقتصادات التي اتخذت لنفسها لونا يميزها، ويؤطر مجال اشتغالها حتى لا تفقد البوصلة بعيدا عن هدفها. فجاء الأخضر للبيئة والأزرق للماء والبنفسجي للثقافة والأبيض للرقميات وما إلى ذلك في محاولة ربما تحقق بحكم وحدة النطاق والتخصص فيه ما عجز النظام الاقتصادي الرأسمالي عن تحقيقه خلال قرون خلت.

الأكثر قراءة