3 أزمات تحويلية كبرى حلت بالبشرية دفعة واحدة
والآن بعد أن تجاوزت البشرية عتبة الذكاء الاصطناعي، يتعين علينا أن نأخذ على محمل الجد احتمال أن يؤدي تطورنا من حضارة إنسانية إلى حضارة آلة إلى إزالة العنصر البشري تماما. وبقدر ما يبدو الأمر غريبا بالنسبة إلينا الآن، فإن الأزمات الأخرى التي أوجدناها تجعل هذه النتيجة أكثر احتمالا. إننا نعيش أوقاتا حافلة بالأحداث -وربما حتى "جامحة"- حيث يصنع التاريخ بوتيرة سريعة وغاضبة. لماذا يحدث هذا الآن؟
يجيب كان يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا ونائب مستشارها في الفترة من 1998 إلى 2005، وزعيم حزب الخضر الألماني لمدة تقرب من الـ20 عاما، قائلا: لأن ثلاث أزمات تحويلية كبرى حلت بالبشرية دفعة واحدة. كل من التحولات الجيوسياسية والمناخية والرقمية التي نشهدها اليوم من شأنها أن تشكل ما يكفي من التحدي في حد ذاتها، لكننا نشهدها في وقت واحد. إن الأزمة العالمية الكبرى غير المسبوقة تهدد بإرهاق قدرات أنظمتنا السياسية والثقافية على التكيف أو الحفاظ على السيطرة.
كل عام يمر من درجات الحرارة القياسية، وحرائق الغابات، والجفاف، والظواهر الجوية المتطرفة، يؤكد حجم أزمة المناخ. ورغم أن تأثيراتها العالمية طويلة الأمد معقدة إلى حد غير عادي، فإن الطبيعة الأساسية للمشكلة مفهومة جيدا. إن الحلول معروفة، لكن السياسة اللازمة لتحقيقها صعبة إلى حد الجنون. على النقيض من ذلك، تظل العواقب المترتبة على التحول الرقمي أكثر غموضا. في العام الماضي فقط، فتحت البشرية بابا تكنولوجيا جديدا بفضل اختراقات في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، ولا أحد يعرف على وجه اليقين ما يكمن على الجانب الآخر.
أحد الاختلافات الكبيرة بين هذين التطورين هو أن تأثيرات الذكاء الاصطناعي لا يزال من الممكن إيقافها، أو حتى عكسها، على الأقل من حيث المبدأ. ومع ذلك، هناك شك في أنهم سيفعلون ذلك بالفعل. يشير كل من الخبرة التاريخية والمنطق الأساسي للبحث والتطوير التكنولوجي، إلى أن ثورة الذكاء الاصطناعي ستستمر في اكتساب الزخم.
قرب نهاية 2022، أطلقت شركة OpenAI الناشئة ومقرها كاليفورنيا (بتمويل من استثمارات كبيرة من قبل شركة التكنولوجيا العملاقة مايكروسوفت) نموذجها الضخم ChatGPT، ما أدى إلى إطلاق اندفاعة تكنولوجية جديدة نحو الذهب. على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي ليس جديدا، فقد أدرك كثيرون أن اللحظة الحالية هي بداية عصر جديد. ووفقا لهذا التفكير، فقد بلغت الرقمنة مستوى غير مسبوق من الناحية النوعية، وستغير الآن أسلوب حياتنا بالكامل بشكل جذري ـ من كيفية إنتاجنا واستهلاكنا إلى كيفية تعلمنا وتفاعلنا مع بعضنا بعضا.
وبالنظر إلى المستقبل، ينبغي لنا أن ننظر في احتمال أن تنقلب العلاقة بين البشر والآلات رأسا على عقب. وبفضل قوتها الحسابية وسرعتها الفائقة، وإمكانية الوصول إلى وفرة متزايدة من البيانات، وتحسين القدرات الإدراكية بسرعة (بفضل أجهزة استشعار أكثر شمولا وتطورا)، ستصبح الآلات الجديدة أولا لا غنى عنها للبشرية، وبعد ذلك قد تصبح متفوقة بكثير على البشر أنفسهم.
ما نتعامل معه إذن هو تبادل محتمل بين الذات والموضوع، بين البشر وأدواتهم. وبما أن الآلات التي تتمتع بقدرات التعلم الذاتي والمعرفة المتفوقة سيكون لديها بوضوح القدرة على نقل البشرية إلى المرتبة الثانية، فإن السؤال الحقيقي هو ما إذا كانت ستفعل ذلك بالفعل.
ولكي نقدر هذه الديناميكية، فيتعين علينا أن نعود إلى التحليل الشهير الذي أجراه الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيجل لـ"جدلية السيد والعبد"، الذي أوضحه بوضوح في ذروة الثورة الصناعية الأولى في كتابه المبدع الذي صدر عام 1807 تحت عنوان "ظواهر الروح ". يشرح هيجل أن السيد النموذجي يأمر ويستمتع بثمار عمل الآخرين، في حين أن العبد يتحمل مشاق الكدح والخضوع لإرادة السيد. ومع ذلك، في هذه العملية، يكتسب العبد المهارات اللازمة لتشكيل العالم، وفي يوم من الأيام يتخلص من النير.
كيف ستنعكس هذه الجدلية في العلاقة بين البشر والآلات؟ هذا السؤال غير مسبوق على الإطلاق في تاريخ البشرية، والإجابة عنه قد تحدد ما إذا كان هذا التاريخ سيستمر في المستقبل. لكن ما يزيد الأمور تعقيدا هو التحولان العظيمان الآخران، لأن هذا قد يعني أنه ليس لدينا خيار سوى احتضان الذكاء الاصطناعي بشكل كامل.
ففي نهاية المطاف، هل يمكن تصور بقاء الإنسان على كوكب أكثر دفئا إلى حد كبير دون إنشاء حضارة تكنولوجية قائمة على الذكاء الاصطناعي؟ وماذا علينا أن نفعل إذا كان منافسونا الجيوسياسيون يسعون إلى الهيمنة على الذكاء الاصطناعي، بدلا من السعي وراء هيمنة الذكاء الاصطناعي بأنفسنا؟ علاوة على ذلك، ماذا سيحدث للتركيبة السياسية الأساسية للمجتمعات البشرية في ظل هذه الظروف الجديدة والمختلفة جذريا؟ فماذا قد يحدث للدول والحكومات والصراع الذي يبدو أنه لا نهاية له فيما بينها، خاصة إذا أصبح الذكاء الاصطناعي الوسيلة المفضلة لشن -أو حتى قيادة- الحروب الحديثة؟
والآن بعد أن تجاوزنا عتبة الذكاء الاصطناعي -مع عدم وجود خيار يذكر في هذا الشأن على ما يبدو- يتعين علينا أن نأخذ على محمل الجد احتمال أن يؤدي تحولنا من حضارة تتمحور حول الإنسان إلى حضارة تهيمن عليها الآلات إلى إزالة العنصر البشري تماما. حتى لو لم يتم القضاء على الجنس البشري، فقد يتم تهميشه بالكامل. وكما يبدو لنا الأمر الآن غريبا، فإن هذه هي الذروة المحتملة لجدل التنوير.