السعودية وكرة القدم .. قوة ناعمة ساحرة ومستديرة
تواصل السعودية رفع سقف التحدي عاليا، بإعلان الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، الأربعاء الماضي، عن نية بلاده في الترشح لاستضافة نهائيات كأس العالم 2034، ويأتي هذا القرار بحسب قول ولي العهد تتويجا "لما وصلت إليه البلاد من نهضة شاملة على الأصعدة والمستويات كافة، الأمر الذي جعل منها مركزا قياديا وواجهة دولية لاستضافة أكبر وأهم الأحداث العالمية في مختلف المجالات، بما تمتله من مقومات اقتصادية وإرث حضاري وثقافي عظيم".
من جانبه، أكد الاتحاد السعودي لكرة القدم في بلاغ، عقب دعوة الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" الأعضاء من الاتحادين الآسيوي والأوقياني لتقديم ملفاتهم لنسخة 2034، قبل نهاية الشهر الجاري، أنه عازم على احتضان البطولة، وذلك "وفقا لخطة شاملة يسعى من خلالها نحو تسخير جميع الإمكانات والطاقات لتوفير تجربة رائعة وغير مسبوقة لإسعاد عشاق كرة القدم". رهان ليس بالأمر الصعب على شعب عاشق لكرة القدم، ودولة جعلت الرياضة دوما في صلب اهتمامها، وترسخ هذا التوجه بعدما أضحى الاستثمار في الرياضة ثابتا من ثوابت استراتيجية "رؤية 2030" التي أطلقتها المملكة منذ 2016.
يوشك الإعلان السعودي عن الرغبة في استضافة دورة 2034 أن يدشن مرحلة جديدة في تاريخ المنافسة على النهائيات، إذ لأول مرة يحصد خبر عزم دولة معينة الترشح على دعم من هذا الحجم، فخلال أقل من 24 ساعة عبرت العشرات، أكثر من 30 اتحادا حتى الآن، من الاتحادات الرياضية الوطنية والاتحادات الإقليمية (الخليجي والآسيوي...) عن تأييد المملكة، لامتلاكها كل مقومات النجاح لاستضافة المونديال. يحدث هذا الإجماع دون النظر في ملف الترشح، وما إلى ذلك من الاعتبارات الفنية التي تعتمد عادة عند التصويت لمصلحة هذا البلد أو ذلك لنيل شرف احتضان المسابقة.
وكيف لهم انتظار ذلك والحقائق بادية أمام أعينهم، ففي أحدث حوار للأمير محمد بن سلمان ولي العهد مع شبكة "فوكس نيوز"، سبتمبر الماضي، أكد أن الاستثمار في الرياضة يضيف 1 في المائة للناتج المحلي، والبلاد عازمة على الاستمرار في خطتها الاستثمارية في الحقل الرياضي حتى يصل الرقم إلى 1.5 في المائة من مجمل الناتج المحلي. ما يؤكد أن المملكة ماضية في خياراتها الاستراتيجية الكبرى، وحلول كأس العالم في الأراضي السعودية 2034، لا يعدو أن يكون مجرد تتويج لتوجهات قيادة تؤمن بقول أمير الشعراء أحمد شوقي: "وما استعصى على قوم منال / إذا الإقدام كان لهم ركابا".
طموح يعمل الواقع على تأكيده كل يوم، فخلال الأعوام الخمسة الأخيرة نجحت الرياض في استضافة أكثر من 50 حدثا رياضيا دوليا، في شتى أنواع الرياضات من الرياضيات الميكانيكية (السيارات، الدرجات...) إلى الرياضات الفردية (الجولف، التنس، الفروسية...)، حتى باتت وجهة رياضية عالمية تشد إليها أنظار المتابعين والمتفرجين وقبلها رحال اللاعبين والمشجعين من أقاصي العالم.
وتبقى أجندة البلاد في المقبل من الأعوام خير دليل على أن الرياضة في قلب خطط قيادة البلاد، فالسعودية على موعد مع نسخة هذا العام من كأس العالم للأندية، ودورة الألعاب القتالية 2025، ثم نهائيات كأس آسيا 2027، بعد أن بقيت وحيدة في المنافسة، بعد قرار كل من الهند وأوزبكستان وإيران الانسحاب. واختيرت المملكة لاستضافة دورة الألعاب الآسيوية الشتوية، في 2029 على ثلج اصطناعي، في نيوم مدينة الذكاء والاستدامة. وفي الأجندة أيضا النسخة الـ22 من دورة الألعاب الآسيوية التي ستحتضنها العاصمة الرياض.
فضلا عن القفزة النوعية للمستديرة في ربوع البلاد، فالدوري المحلي جاء في المركز الثاني، بعد الدوري الإنجليزي، في سوق الانتقالات الصيفية لهذا العام بنحو 875.4 مليون دولار. فجماهير كرة القدم في العالم باتوا يتابعون متعة اللعبة بأقدام النجوم العالميين من أكثر 45 دولة اختاروا دوري روشن للمحترفين والملاعب السعودية لإسعاد الجماهير من هناك.
خلافا لتجارب ركزت على دوري النخبة فقط، عمت سياسة المملكة مختلف الفئات والأصناف، فكرة القدم هواء يتنفسه السعوديون كل يوم، فمؤشرات وأرقام الاهتمام باللعبة على جميع المستويات والأصعدة في ارتفاع مستمر. قد لفت هذا الأمر انتباه الصحافي البريطاني كافيه سولهيكول الذي أثاره الجمهور السعودي في آخر نسخة للمونديال، قبل أن يعلق "لدى السعودية خبرة في استضافة الأحداث الرياضية، وهذا يتوافق مع حديث المسؤولين الرسميين في البلاد، وبالنظر إلى أن كأس العالم 2034 سيكون بين قارة آسيا ومنطقة أوقيانوس فلا تحتاج إلى التفكير كثيرا فيمن سيفوز بتنظيمه، ستكون السعودية".
اهتمت صحف عالمية كبرى بالموضوع، فيومية "ميرور الإنجليزية" تحدثت أن دورة 2034 ستكون آسيوية، مؤكدة أن حظوظ السعودية في الظفر بشرف تنظيم نهائيات هذه البطولة عالية جدا، ما يعني عودة المونديال مجددا إلى الخليج للمرة الثاني ولآسيا للمرة الثالثة. أما صحيفة "لكيب" الفرنسية" (الفريق) فكتبت تقول إن "السعودية ستقدم مشروعا لبطولة عالمية يلهم التحول الاجتماعي والاقتصادي في المسار العربي السعودي، والشغف بكرة القدم في البلاد".
القوة والقدرات والإمكانات الاقتصادية والسياسية والجغرافية، فضلا عن شعب يهوى الرياضة وقيادة ملهمة تدرك يقينا أن الرياضة لم تعد تسلية بقدر ما هي وسيلة للرقي والازدهار الحضاري وقناة مثلى للحوار والتواصل والانفتاح على العالم. باختصار، إنها القوة الناعمة التي تستخدمها الرياض بهدوء وذكاء لكي تسحر العالم بمنجزاتها.