هل ماتت فكرة «السلام عبر التجارة»؟

هل ماتت فكرة «السلام عبر التجارة»؟

منذ حرب روسيا وأوكرانيا، انطلق الساسة الألمان في جولة اعتذار عن اعتماد بلادهم في الماضي على الهيدروكربونات الروسية والدعوة إلى التكامل بين الاتحاد الأوروبي وروسيا في مجال الطاقة. وجاء رد المستشار الألماني أولاف شولتز على الاعتداء الروسي بإعلان "نقطة تحول" واتخاذ القرار أخيرا بإغلاق خط أنابيب نورد ستريم 2. مع ذلك، لا يزال كثيرون ينظرون إلى المشروع بوصفه لطخة لوثت شرف ألمانيا وفطنتها السياسية.
بعد مرور عام ونصف العام على بداية الحرب، لا يزال القادة الألمان يتصارعون مع أخطاء الماضي السياسية ويناضلون لاستخلاص دروس واضحة منها. ولأن اقتصاد ألمانيا القائم على التصدير يظل معتمدا بشدة على السوق الصينية، فإن النهج الذي تسلكه في التعامل مع الصين متضارب ومتناقض بدرجة كبيرة. بحسب هارولد جيمس أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون. وهو مختص في تاريخ الاقتصاد الألماني والعولمة، وهو مؤلف مشارك لكتاب "اليورو" و"معركة الأفكار".
ومن ثم، في أواخر يونيو، وبينما رفض الرئيس الأمريكي جو بايدن الاعتذار عن وصفه الرئيس الصيني شي جين بينج بالديكتاتور، قام رئيس الوزراء الصيني لي تشيانج بزيارة ودية إلى ألمانيا، حيث احتفل هو وشولتز بالدور الذي قد تلعبه العلاقات التجارية الصينية - الألمانية في موازنة المنافسة الصينية - الأمريكية متزايدة التوتر. ولكن في سبتمبر، كررت أنالينا بيربوك وزيرة الخارجية الألمانية ذلك الوصف المهين، في حين أوضح مفوض الاتحاد الأوروبي التجاري فالديس دومبروفسكيس أن "الاتحاد الأوروبي ليس لديه أي نية للانفصال عن الصين".
ترى هل يبالغ الألمان، والأوروبيون في عموم الأمر، ولا يتعمقون في التفكير؟ قد يوافق على هذا منتقدو السياسة الألمانية التي كثيرا ما يسخر منها الآن بوصفها "تجارية النزعة" (مركنتيلية)، وهو مصطلح لا يخلو من التورية هنا، حيث يقصد به سياسات المستشارة السابقة أنجيلا ميركل. ومع ذلك فإن المبدأ القائل إن الاقتصاد قادر على تشكيل السياسة بطرق مفيدة يستحق قدرا من الاحترام أكبر مما كان يتلقاه. كان هذا هو المبدأ الأساسي وراء السياسة الشرقية الألمانية "المعيبة"، التي رأت في تطبيع العلاقات الاقتصادية وسيلة لتأمين السلام أثناء الحرب الباردة وبعدها. وهي أيضا الفكرة الأساسية وراء العولمة الحديثة.
يزعم بعض المنتقدين أن السياسة الشرقية كانت دوما عاجزة بسبب عيوب شابت بعض أفراد بعينهم ـ مثل سعي المستشار الألماني جيرهارد شرودر الحثيث وراء المال، الذي تسبب في تحويله برغبته إلى دمية في يد شركة غازبروم، أو حذر ميركل المفرط، الذي يرجع في حد ذاته إلى نشأتها في ألمانيا الشرقية. لكن آخرين يرون في النهج الألماني نقيصة أكبر ترجع إلى السذاجة. على حد تعبير روبرت كاجان في مناسبة شهيرة قبل 20 عاما، "الأوروبيون المغرمون العاطفيون" ينتمون إلى كوكب الزهرة، في حين ينتمي الأمريكيون والروس والصينيون في الأرجح الجامدون العمليون إلى كوكب المريخ.
في أي الأحوال، تنتمي المجموعة الحالية من القادة في ألمانيا إلى تقليد قديم يشمل أيضا المستشارين كونراد أديناور (1949-1963)، وهيلموت شميت (1974-1982)، وهيلموت كول (1982-1998). بدأت عملية تمديد خطوط الأنابيب لتحسين العلاقات مع روسيا أو الاتحاد السوفيتي في أواخر خمسينيات القرن الـ20، وقوبلت بالتشكك من جانب الولايات المتحدة منذ ذلك الحين. لكن التعاون الاقتصادي الذي نشأ عن مثل هذه المشاريع كان أيضا الأساس الذي قام عليه انفتاح الاتحاد السوفيتي في عهد ميخائيل جورباتشوف.
لكن فكرة أن التجارة تفضي إلى السلام، والسلام يفضي إلى التجارة، ليست جديدة. ففي منتصف القرن الـ19، رأى كثيرون من الألمان أن الوحدة الوطنية مرغوبة في المقام الأول بسبب الفوائد الاقتصادية التي قد تجلبها. وكما أوضح أوجست لودفيج فون ريتشاو، وهو الرجل الذي صاغ مصطلح "السياسة الواقعية" في ذلك الوقت، فإن توحيد ألمانيا لم يكن "مسألة عاطفية، بل كان من منظور الألمان في الأساس عملا تجاريا بحتا".
بعد قرن من الزمن، أوجدت الفلسفة ذاتها أوروبا الحديثة. بدأ مشروع الاتحاد الأوروبي في أوائل خمسينيات القرن الـ20 بوصفه "جماعة" لربط الفحم الألماني وخام الحديد الفرنسي. وكان التكامل الاقتصادي أول خطوة نحو نزع فتيل العداء القديم الذي أدى إلى ثلاثة صراعات كارثية خلال الفترة من 1870 إلى 1945.
في ضوء نجاح هذا المشروع، ليس من المستغرب أن ترشـد التجربة ذاتها استجابة أوروبا لانهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط الشيوعية. وقد دعا هذا التحدي الجيوسياسي الكبير إلى لفتة كبيرة بالقدر نفسه من جانب أوروبا. كان التنسيق الدفاعي أحد الخيارات التي باتت فوائده واضحة عندما نسترجع أحداث الماضي، لكن الساسة الأوروبيين اختاروا المال والعملة الموحدة ـ اليورو ـ لاستعراض التزامهم تجاه بعضهم بعضا. ولأن هذا المشروع الاقتصادي نجح في دمج أوروبا والحفاظ على السلام بين أعضائها، فمن المفهوم أن يحاول كثير من الأوروبيين تطبيق النموذج ذاته على نطاق عالمي أكبر.
الواقع أن إيمان ألمانيا بالترابط الاقتصادي يوضح موقعها الجغرافي. تاريخيا، كان الموقع المتوسط الذي تحتله في شمال أوروبا، مع افتقارها إلى الجبال التي لا يمكن اختراقها وغير ذلك من الحدود الطبيعية الواضحة، سببا في إنتاج نوع من الهشاشة لا تعرفه القوى المنعزلة الواقعة على المحيط مثل المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة. فمن السهل أن تتقدم الجيوش عبر سهل مفتوح بقدر ما يسهل على التجار استخدام الطرق الساحلية والبرية للربط بين الناس. وعلى هذا فقد كان الألمان دوما منجذبين بين مارس (رمز الحرب) وعطارد (رمز التجارة). يعني هذا التأطير بين "إما أو" ضمنا أن كل شيء سيعتمد على الاقتصاد إذا أصبحت الحرب احتمالا غير وارد. لكن العكس أيضا صحيح، فإذا تعثرت قصة التنمية، تصبح العودة إلى الصراع أكثر ترجيحا.
رغم أن الحرب في أوكرانيا كانت مدمرة، فإن الاستجابة لها بالحظر المالي وحظر الطاقة، وليس التصعيد النووي، تشكل في حد ذاتها انتصارا للبشرية. حتى الآن، كان التدمير المادي شديد القسوة محصورا في دولة واحدة. وعلى هذا فإن الحرب تنطوي على دروس مهمة لمن يفكر في الكيفية التي ينبغي بها لأوروبا وأمريكا أن تستجيب للصين. هل ينبغي للمخاوف من تكرار الأخطاء التي ارتكبت مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن توجه استراتيجية التعامل مع شي جين بينج، أو أن الاستمرار في التعامل مع الصين يقدم أفضل فرصة لكبح جماح روسيا؟ بما أن الإجابة ليست واضحة بأي حال من الأحوال، فلا ينبغي للأوربيين أن يعتذروا عن إجراء مثل هذه الحسابات الاستراتيجية.
في وقت سابق من هذا العام، عندما احتفل كبار الساسة وصناع الرأي بالذكرى المئوية لميلاد هنري كيسنجر، أكدوا حقيقة مفادها أن كيسنجر ـ وواقعيته الأصيلة ـ كان منـتجا ألمانيا أمريكيا مشتركا أسهم بشكل حاسم في تشكيل ألمانيا الديمقراطية المستقرة. وكانوا محقين في الاحتفال بتلك المناسبة. فقد صاغ كيسنجر نموذجا قادرا على تحقيق نتائج قوية وعظيمة الفائدة ـ حتى إن كان يحمل في طياته دوما احتمال الفشل.
كانت السياسة الألمانية الأوروبية "المعيبة" السابقة رهانا على العولمة، والعولمة دائمة التغير. ورغم أنها ستستمر دون شك في التطور في اتجاهات جديدة وغير متوقعة، فإن هذا ليس سببا لرفض فكرة أن الاتكالية المتبادلة تدعم في الأغلب السلام والرخاء.

الأكثر قراءة