التاريخ وغوايته الخطيرة .. تفكيك الروايات الحتمية وليس مسايرتها

التاريخ وغوايته الخطيرة ..  تفكيك الروايات الحتمية وليس مسايرتها

وراء الفوضى العالمية اليوم، نجد روايتين متصلتين حول مواطن القوة ونقاط الضعف النسبية لدى مختلف الدول في المنافسة على القوة العالمية. تدور الرواية الأولى حول صعود وسقوط الأمم والحضارات في الأمد الطويل، في حين تدور الأخرى حول أوضاع وأحوال أقصر أمدا. وفقا لتقرير هارولد جيمس أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون.
من المنظور الغربي، تنظر الرواية الأولى إلى الصين بوصفها تهديدا بسبب قوتها غير العادية، في حين تعرضها الراوية الثانية على أنها تهديد بسبب ضعفها المتأصل. من ناحية أخرى، ينظر قادة الصين إلى أمريكا بوصفها تهديدا لأنها ضعيفة بنيويا وتهيمن عليها نخب سياسية حاكمة مسنة، ولكن أيضا لأنها تظل قوية بدرجة غير عادية وعاقدة العزم على عزل أي منافس لها في الأمد القريب. على حد تعبير وانج وينتاو وزير التجارة الصيني، متحدثا نيابة عن الرئيس شي جين بينج أخيرا، "في هوسها بإدامة هيمنتها، تبذل بعض الدول قصارى جهدها لتعجيز الأسواق الناشئة والدول النامية".
تعتمد الرؤية الأولى للمستقبل على العدسة التحليلية البسيطة والمقنعة ظاهريا بالتالي للأحوال الجيوسياسية. ينشغل أهل السياسة الجغرافية برسم سيناريوهات طويلة الأمد للصعود والسقوط. تتسم خطوط حبكتهم بالوضوح دائما: دولة واحدة تهيمن على العالم طوال قرن من الزمن أو نحو ذلك قبل أن تتبدل أحوالها وينال منها الإنهاك وتفقد مكانتها.
من الأمثلة البارزة لهذا النهج كتاب المؤرخ بول كينيدي الشهير الصادر في 1987 بعنوان "صعود وسقوط القوى العظمى"، الذي لا يزال يحدد شروط المناقشة حتى يومنا هذا. كما يروي لنا، كانت إسبانيا الدولة المهيمنة من منتصف القرن الـ16 إلى منتصف القرن الـ17، وتلتها فرنسا في القرن الـ18، وبريطانيا في القرن الـ19، ثم الولايات المتحدة بعد 1945. المغزى الضمني وفقا لهذا الإطار الطويل الأجل، هو أن الصين حان دورها الآن.
في الأغلب الأعم، يؤدي الانتقال من قوة عظمى إلى أخرى إلى نشوء توترات وحروب، لأن القوة القديمة الآفلة ستحاول مقاومة وإحباط صعود المنافس. لكن هذا يميل إلى إيجاد نبوءة تتحقق بذاتها: في كل من دراسات الحالة التاريخية التي أجراها كينيدي، كان الصراع العسكري يعجل بزوال القوة العظمى.
في السياق الحالي، يأتي "الانفصال" في العلاقة الصينية - الأمريكية نتيجة لمخاوف تكاد تكون متماثلة على الجانبين. إذ يتهم الأمريكيون الصين بتخريب النظام الدولي القائم على القواعد الذي تقوده الولايات المتحدة، وسرقة التكنولوجيا والملكية الفكرية، وتجاوز خطوط حمراء باستخدام بالونات تجسس، واختراق الهيئات الحكومية، ونشر معلومات مضللة لتقويض الثقة بالنظام السياسي الأمريكي.
على نحو مماثل، قررت الحكومة الصينية للتو، خوفا مما قد تتعلمه الولايات المتحدة من عمليات المراقبة وجمع المعلومات الاستخباراتية، تقييد البيانات الاقتصادية التي تنشرها، كما أقرت قوانين جديدة ضد التجسس. الواقع أن قسما كبيرا من الشعب الصيني وقيادات الصين مقتنعون أن أمريكا عاقدة العزم على عرقلة صعود الصين الطبيعي ويرون أن هذا من شأنه أن يعيد الصين إلى الحالة التي كانت عليها قبل "قرن الإذلال"، عندما أخضعت، ونهبت، وأفقرت على يد القوى الغربية واليابان.
في بعض الأحيان، تصطدم وجهات النظر الأطول أمدا هذه باعتبارات أقصر أمدا. في الأشهر الأخيرة، على سبيل المثال، كان الساسة والصحافيون في مختلف أنحاء الغرب عاكفين على الاستنباط من التغيرات قصيرة الأمد في نمو الدخل الوطني للخروج بتكهنات كبرى حول من يفوز ومن يخسر في اللعبة العظمى الجديدة. في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، عندما كان أداء الاقتصاد الألماني هزيلا، تمسك المعلقون بفكرة مفادها أن ألمانيا كانت "رجل أوروبا المريض". لكن ألمانيا نظمت بعد ذلك عودة غير عادية، لتصبح واحدة من أكبر المستفيدين من التجارة في عصر جديد من العولمة. ولكن مع ضعف أدائها الاقتصادي نسبيا، أصبحت تعد رجل أوروبا المريض مرة أخرى.
يركز المعلقون اليوم بشدة أيضا على مشكلات الصين الاقتصادية، خاصة معدل البطالة المرتفع بين الشباب، وانهيار سوق العقارات، الذي يتناقض مع طفرة الاستثمار والتصنيع الجديدة في أمريكا، في أعقاب صدور تشريعات جديدة مثل قانون خفض التضخم. بطبيعة الحال، سيستنتج أولئك الذين يتبنون هذا المنظور قصير الأمد أن الصين بدأت تضعف، وأن أمريكا لا تزال على القمة. فهي على النقيض من توقعات الانحدار تستفيد من تفكك العولمة، في حين تعاني اقتصادات كبرى موجهة نحو التصدير مثل الصين وألمانيا.
يعمل هذا التفاؤل الذي يعده بعض المراقبين غطرسة ـ على تغذية مخاوف الصين بشأن تخريب نهضتها، لأنه يستحضر أوجه تشابه تاريخية قوية. الواقع أن القوى المهيمنة قادرة على الرد بشراسة على كل من ترى أنه يتحداها أو يباريها، وهي تفعل ذلك عادة: فقد دمرت بريطانيا الصين في أوائل القرن الـ19 بإغراقها بالأفيون، وكانت الولايات المتحدة حريصة على القضاء على التحدي الياباني في أواخر القرن الـ20.
من السهل أن ننسى أن مخاوف الولايات المتحدة في ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الـ20، بشأن المنافسة الصناعية غير العادلة من جانب اليابان، كانت شديدة الوضوح إلى الحد الذي جعل معلقين مشهورين ينشرون كتبا تحمل عناوين مثل "الحرب المقبلة مع اليابان". عندما انفجرت فقاعة أسعار الأصول اليابانية في 1991، ظن كثيرون من اليابانيين أن في الأمر مؤامرة أمريكية، خاصة بعد الدور الذي لعبته سياسة الولايات المتحدة في الديون غير المستدامة التي تراكمت على اليابان في ثمانينيات القرن الـ20. ومن السهل أيضا تحديث هذا السيناريو لينطبق على السياق الحالي. في النهاية، ألم يكن ارتفاع أسعار الأصول بشدة في الصين في العقد الثاني من القرن الحالي (بما في ذلك فورة المضاربة في العقارات)، راجعا بشكل جزئي إلى النظام النقدي الأمريكي المتساهل بعد الأزمة المالية العالمية؟
الحقيقة المحزنة هي أن كلا من الروايتين تشكل دليلا هزيلا للمعضلات السياسية في الوقت الحاضر. وعندما يفكر صناع السياسات في الأمد البعيد، يجب أن يتجنبوا إغواء مذهب الحتمية. فلا يوجد قانون تاريخي يملي مدة صلاحية المؤسسات الجديرة بالثقة. لقد دام التفوق المالي البريطاني أكثر من قرنين من الزمن، من أواخر القرن الـ17 إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى. لكن هذا لا يعني أن التفوق المالي الأمريكي قد يدوم فترة مماثلة.
أما التقلبات قصيرة الأمد فتشكل دليلا أشد سوءا. فقد شهدت دول عديدة استفادت من العولمة صدمات وانتكاسات، لكنها تكيفت وعادت أقوى مما كانت. ولا ينبغي لفقاعة العقارات المنهارة أن تدمر الصين، تماما كما لم يدمر انهيار سوق العقارات في 2008 الولايات المتحدة. وقد تتعلم الصين من تجربة اقتصادات آسيوية أخرى سريعة النمو، مثل كوريا الجنوبية، التي شهدت ارتباكات شديدة في سبعينيات القرن الـ20 (أزمة النفط)، وفي أوائل الثمانينيات (أزمة الديون الدولية)، ومرة أخرى في أواخر التسعينيات (الأزمة المالية الآسيوية). وفي كل من هذه المناسبات نجحت في تكييف نموذج النمو وتحقيق الازدهار.
الجميع يريدون قصة بسيطة. لكن المهمة الحقيقية التي يجب أن يضطلع بها التحليل التاريخي لا بد أن تكون تفكيك الروايات الحتمية، وليس مسايرتها.

الأكثر قراءة