الانصهار مع التقنية
تقول الحكمة الفرنسية المأثورة "مادام الواقع يتحرك، فالمفاهيم تتحرك معه" ومن الجدير بالذكر أن العالم يعيش عصر المتغيرات الكبرى فمن الحداثة إلى ما بعد الحداثة التي تتخذ من الفضاء الرقمي ساحة لها.
تحولنا إلى عصر السرعة " السرعة المفرطة" وبعد استنفاذ هوامش تقليص المسافات تتجه صوب محوها، وتدريجيا نرحل من الواقعية المادية لنستقر في رحاب العوالم الافتراضية لدرجة أضحى القسط الأكبر من حياتنا اليومية يعالج في هذه الفضاءات المترامية الأطراف التي لا تعترف بالحدود الجغرافية وتمزج الثقافات بعضها ببعض.
من تجليات التكنولوجيا أنها نقلت جزءا كبيرا من الأنشطة الإنسانية إلى العالم الرقمي، وفي مقاربة متناقضة استطاعت أن تحدث قطيعة شبه كاملة مع الثقافة السائدة و"زعزعة اليقينيات" كما يرى الكاتب المغربي محمد طيفوري.
والتساؤل في ضوء هذه الفجوات عن أي دور للمعرفة في ظل تنامي "علم الجهل" كما شاء أن يصطلح عليه الأكاديمي الأمريكي روبر بروكتور، وغدونا مع جيل مفتون بالذكاء الاصطناعي والزائف، فاقد الاتصال مع الواقع، وثورة العالم الرقمي القائمة على القضاء على المادة والتسوية بين المادة الأصلية والنسخة المستنسخة.
أيضا ما مدى استفادتنا في العقل النقدي من غربلة هذه التقلبات التقنية لمواجهة المنزلقات القيمية حتى لا ننخرط في "خدعة التكنولوجيا" كما عنون الأكاديمي الفرنسي جاك إيلول الآخر كتابه الذي يرى فيه أن التقنية (تمحو مبدأ الواقع). برغماتية الواقع الافتراضي تفتقد للمصداقية أو قل تعتمد على التجهيل.
اليوم حينما ينشأ ثريد في منصة إكس في الغالب ليس من أجل المعرفة فحسب بل للحصول على أكبر عدد من مشاركات الرابط، وترويج المحتوى بهدف زيادة المتابعين أو التفاعل مع محتوى مستفز أو مخالف للسائد، إذ لم يعد للمبدأ أو القيمة حضور، بل للإثارة وصناعة الانتشار.
الإثارة صناعة صحافية بامتياز وهي جديرة به وتتقن تنفيذه لأنها بكل اختصار هذا عملها وهي صناعة متخصصة مهنية تدرك قيمة المصداقية والموضوعية وهذا الخيط الرفيع الذي لا يفقهه كثير ممن يركب موجة هذه الصناعة.
التقنية فرضت حق النشر والظهور للجميع وبالتالي أصبحت القيم هي الحاكمة وليس كل الناس على قيم متساوية وللكل قيمه الخاصة لا ينازعه فيها أحد طالما لا تعترض ثابتا دينيا أو اجتماعيا، وفي تقديري أنا وصلنا لمرحلة لا يجب الانصهار مع التقنية، والدوران معها كيفما دارت والمنشود التوازن والتقييم المستمر والمشاركة في التغيير وليس فقط الوقوف في منصة استقبال المتغيرات مهما وكيفما كانت.