الاقتصاد الأمريكي في المنطقة الحساسة

"أسعار الفائدة ستعود إلى مستويات طبيعية على المدى المتوسط"
جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية
تدور تساؤلات عديدة حول الاقتصاد الأمريكي في الفترة المقبلة، حتى إن بعضهم ذهب بعيدا بإطلاقه تعبيرات "الاستعداد للصدمة". والمقصود هنا عند هؤلاء، أن هذا الاقتصاد قد لا ينجح في تفادي الركود، على الأقل في الربع الأول من العام المقبل. وبصرف النظر عن حالة عدم التفاؤل عند بعضهم، إلا أن الاقتصاد الأمريكي تقدم كثيرا في العامين الماضيين على الاقتصادات الغربية الأخرى، في مواجهة التضخم، وفي تنشيط القطاعات المساندة، وتمكن بالفعل من الوصول إلى ساحة الركود، ولئن طالت فترة التباطؤ. فهذا الأخير "التباطؤ" يعد بحد ذاته "انتصارا" لعديد من الاقتصادات، وسط الصعوبات التي مرت وتمر بها، فضلا عن أن له تأثيرات نفسية إيجابية، مقارنة بالركود أو الانكماش أو الكساد، أو أي شكل من أشكال التراجع الاقتصادي بشكل عام.
لا شك أن الآثار السلبية عادت للظهور في الآونة الأخيرة نتيجة الرفع المتتالي لأسعار الفائدة. والحق أن هذا "العلاج" للتضخم هو الوحيد المتوافر في الولايات المتحدة وغيرها، على الرغم مما يتركه من معوقات على صعيد النمو. الحلول الأخرى ربما كانت متوافرة مع بدء الموجة التضخمية، بما في ذلك الاتفاقات التي لم تتم بين السلطات الاقتصادية المشرعة في هذا البلد أو ذاك، مع مزودي السلع، إلى جانب توفير الدعم السريع للمستهلكين. وكغيره من الاقتصادات على الساحة الدولية، التزم المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "البنك المركزي" برفع تكاليف الاقتراض، على أمل أن يعيد مستويات التضخم إلى أقرب نقطة ممكنة من النسبة الرسمية المحددة لها عند 2 في المائة، فهذا المستوى هو في الواقع الحد الذي يعتمده كل الاقتصادات المتقدمة منذ عقدين على الأقل.
لكن الاقتصاد الأمريكي يمضي بخطوات ربما ليست ثابتة، لكنها جيدة نحو الابتعاد عن الركود ولو المؤقت. فقد تمكنت الإدارة الأمريكية أخيرا من تجنب الإغلاق الحكومي بالصفقة الشهيرة في مجلس النواب، الأمر الذي أسهم في نشر الارتياح العام على الساحتين المحلية والدولية. وفي الصيف، شهدت الساحة المحلية وفرة على صعيد الوظائف، ما يعد بمنزلة قفزة معززة للمسار الاقتصادي. إلى جانب النقطة الأهم، وهي تراجع التضخم بالفعل إلى مستويات قريبة من الحد الأقصى الرسمي، في حين فشلت الحكومات الغربية عموما في خفضه إلى المستويات المأمولة. لكن التضخم الذي بلغ قبل ثلاثة أشهر تقريبا 3 في المائة، وهي نسبة جيدة جدا، عاد ليرتفع في أغسطس إلى 3.6 في المائة. ما يعطي المتشائمين شيئا من المبررات لما يطرحونه.
تراوح معدلات الفائدة الأمريكية حاليا ما بين 5.25 و5.5 في المائة، بعد الزيادة التي أضيفت أخيرا وهي الـ11 منذ الربع الأول من العام الماضي. ويحذر الرئيس التنفيذي لبنك جي بي مورجان الأمريكي المستثمرين من أن تكاليف الاقتراض قد تصل إلى 7 في المائة. بمعنى آخر، "الفيدرالي الأمريكي" قد يرفع الفائدة بنسبة 1.5 في المائة خلال المراجعات المقبلة له. وواقعيا، فإن العالم "وليس الولايات المتحدة فقط" ليس مستعدا لفائدة بهذا المستوى في العام المقبل، نتيجة التأثيرات الواسعة لها على الساحة الدولية كلها، بما في ذلك بالطبع التجارة والديون السيادية، وغيرها من الساحات المرتبطة بمؤشرات العملة الأمريكية. توقعات هذا المصرفي المؤثر، تتعارض مع قراءات المشرعين الأمريكيين، الذين يتوقعون رفعا واحدا للفائدة من الآن حتى نهاية العام الجاري، مع البدء بخفضها في العام المقبل.
وإذا ما صدقت التوقعات بفائدة مرتفعة فعلا عند 7 في المائة، فإن مسار الاقتصاد الأمريكي سيمضي حتما باتجاه الركود، وهذا أمر مربك معيشيا واقتصاديا وسياسيا أيضا. لكن مع ذلك، لن يكون الركود "إذا ما حصل فعلا" عميقا، غير أنه سيؤثر في مسار النمو بالطبع الذي تسعى الإدارة الأمريكية لرفعه قدر ما تستطيع في الأشهر القليلة المقبلة على الأقل.
فوفق توقعات وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني، فإن الولايات المتحدة قد تحقق نموا بنهاية العام الجاري يصل إلى 1.9 في المائة، بينما كانت التوقعات تدور حول 1 في المائة فقط مع بداية العام الجاري. غير أن الضغوط الراهنة على صعيد التضخم ستعطل مخططات "الفيدرالي الأمريكي" في تخفيض الفائدة على الأقل بداية العام المقبل، ما يترك مؤشرات النمو المتوقعة في 2024 عند حدود 1 في المائة فقط.
من جهة واقعية، فإنه يمكن القول، إن تجنب الاقتصاد الأمريكي إمكانية الركود تتضاءل، لكن لا يمكن أن يغيب عنا أنه في العامين الماضيين اللذين شهدا أوج الأزمة الاقتصادية العالمية، أظهر قدرة قوية على النجاة مقارنة بالاقتصادات الغربية المشابهة له. غير أن كل شيء وارد في المشهد الاقتصادي غير الواضح تماما، وفي فترة متقلبة محليا وعالميا، مع زيادة عمق حالة عدم اليقين عموما في هذه الساحة أو تلك.
إنها فترة يمكن اعتبارها انتقالية حساسة، بين موجة تضخمية فرضت معاييرها ولا تزال بصورة أو بأخرى، وبين انفراجات تظهر هنا وهناك، بعضها يمكن البناء عليه، وبعضها الآخر لا تأثير عميقا له.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي