مشاهير الحرب .. هل تضيع الحقيقة أمام المال والنفوذ؟
"كانت المشكلة الأساسية هي التأكد من الخبر قبل إرساله، وسط طلقات الرصاص والمدرعات المتصارعة، تصبح تلك المهمة هي الأخطر لأي مراسل حربي". كلمات جاءت في كتاب "ويلات وطن" للمراسل البريطاني الشهير، روبرت فيسك، ليلخص بها تحديات تغطية الأخبار الحربية، خاصة أن كاتبها قضى معظم حياته متنقلا بين المعارك، بداية من أحياء الحمراء وعين المريسة والأشرفية في لبنان، مرورا بشارع المتنبي في بغداد حتى ميادين طهران والقدس.
لكن ذلك الزمن انتهى، المعطيات كلها تشير إلى ذلك.. فلم تعد هناك حاجة أن يخضع المراسل إلى تدريبات قاسية أو يدرب نفسه لحفظ أرقام الطوارئ ورمز الاتصال وقت الخطر، فمن يقوم بتلك المهمة الآن، يجلس في غرفته مستريحا، وما عليه سوى ضغطة زر يخبر فيها متابعيه الملايين ماذا يجري في ميدان المعركة، وفي آخر النهار يتصفح هاتفه ليتفقد رسالة البنك كم دخل إلى حسابه اليوم.
ظاهرة مشاهير الحرب التي تحولت إلى حقيقة خلال أكثر من عقد، يمكن تحديد تاريخ بدايتها من عام 2011 الذي شهد اضطرابات في بعض الدول العربية، وبعيدا عما كان يجري على أرض الواقع من أحداث وقتها، وجد كل مواطن عربي أن في يده هاتفا قادرا على توثيق كل ما يراه، ثم اكتشف أنه قادر على حصد آلاف المشاهدات والتعليقات والإعجاب عبر حساباته الشخصية في مواقع التواصل، لينهمر بعدها من سيل المنشورات ومقاطع الفيديو التي بات الناس يغذونها عبر تلك المنصات. وبحسب دراسة لمعهد رويترز الدولي للصحافة والإعلام، فخلال عام 2012 كان 60 في المائة من الناس عالميا يستقون أخبارهم من حسابات شخصية لمواطنين آخرين، وليس من الصحف والقنوات.
بالتالي منحت نسب المتابعة الحافز اللازم لبعض الشخصيات المؤثرة، التي حولت القصة من الرتابة إلى الاحترافية، وبحسب معهد رويترز في 2014، ارتفعت الظاهرة في "السوشيال ميديا" مع تصاعد الأحداث السياسية، وأصبح المؤثرون يصنفون إلى فئات عدة، فأصبح هناك الـ"يوتيوبرز" وهؤلاء من يقدمون محتواهم المرئي عبر "يوتيوب"، وهناك الـ"بلوجرز" من يقدمون محتواهم عبر مدوناتهم الشخصية الذين تقصدهم في الغالب أعداد متوسطة لتخصص محتواهم، أما النوع الأخير فهم المؤثرون الذين ينشرون محتواهم أيا كان نوعه من خلال حساباتهم الشخصية لتحقيق الهدف المطلوب.
أنت أمام ملايين الناس يتابعون ويثقون بحسابات المشاهير، سواء كان "يوتيوبر" أو "بلوجر" أو "موثرا". تلك الحقيقة أدركها مبكرا قطاع الدعاية والإعلان، وتلاه الحكومات، ورجال السياسة، في رغبة منهم لاستمالة هؤلاء المشاهير باختلاف فئاتهم، وتقديم إغراءات لهم، بل ذهبت دول أخرى إلى إبراز مؤثريها من خلال دعم أشخاص يلقون قبولا شعبيا في الفضاء الإلكتروني لتمرير ما يريدون من أفكار، وليس شرطا أنها أفكار سلطوية أو سيئة، فأوقات كثيرة كانت الغايات نبيلة والأهداف حسنة، وفي النهاية الكل رابح. الدولة في تمرير أفكارها وما تريده، والشركات التجارية في ترويج منتجاتها، وأخيرا المشهور خلال ما يجنيه من أموال ونفوذ نتيجة النشر عبر حسابه.
ولأنه لا يهم الناس أكثر من أخبار الحروب، مثلت الحرب الروسية - الأوكرانية في 24 فبراير 2022 كنزا ثمينا لهؤلاء المشاهير، فبمجرد اندلاعها، وبجانب مراسلي القنوات ووكالات الأنباء، ظهر شباب روس لديهم آلاف المتابعين على مختلف المنصات، وكانت مسؤوليتهم الوحيدة هي نشر أخبار المعارك وما يحدث في الميادين على مدار الساعة، ليصبحوا بعد أقل من عام أحد أهم مصادر الأخبار للمواطنين في موسكو، وصار يطلق عليهم "زد بلوجرز"، إذ يشير حرف "زد" إلى الحرب في روسيا.
"بي بي سي" البريطانية ألقت الضوء أكثر على هؤلاء، من خلال تقرير كشفت فيه أن معظم من ينتمون إلى "زد بلوجرز" يرافقون الجيش الروسي في المعارك، وينشرون اللقطات الحصرية، وهذا أكسبهم ملايين المتابعين، خاصة على منصة "تيليجرام" بعد أن حظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المنصات الأخرى كفيسبوك وإنستجرام في مارس 2022. أما طبيعة عملهم، فتتلخص في نشر حصة يومية من مقاطع فيديو تظهر قوة الطائرات الروسية وهي تضرب أهدافا أوكرانية، بجانب ترديد كثير من تصريحات الرئيس الروسي، وشن الهجوم على الرئيس الأوكراني زيلينسكي.
ونتيجة لهذا الدور، كان من الطبيعي أن يحدث تقارب بين زد بلوجرز وبين مؤسسات الدولة الروسية، ولم يتردد قيصر الكرملين بوتين في الإشادة بهم علنا في بعض الخطابات الرسمية، بل اللقاء بهم في يونيو 2022 لمدة ساعتين، مؤكدا أنه يعتمد عليهم في مجال المعلومات، كما أوضحت شبكة "روسيا اليوم" حينها، وإضافة إلى ذلك تم تعيين بعضهم في مناصب مرموقة، مثل ألكسندر كوتس، أحد أبرز مشاهير الحرب، الذي تولى منصب عضو في المجلس الرئاسي لحقوق الإنسان الروسي، بجانب زميله سيميون بيجوف، الذي انضم إلى مجموعات عمل لها علاقة بالتعبئة العسكرية.
لكن مشاهير الحرب لم يكتفوا بالمناصب ولا تغطية الأخبار العسكرية، فالإقبال عليهم من قبل الملايين فتح لهم بابا آخر للعمل التجاري "البزنس" فأصبحوا من أكبر المروجين للسلع بكل أنواعها بداية من ملابس الموضة حتى شركات البورصة، ولكل منشور سعره، فألكسندر كوتس، الذي يتابعه أكثر من 600 ألف متابع على قناته الشخصية عبر "تيليجرام" يتقاضى ما بين 500 - 700 دولار أمريكي في المنشور الواحد، فيما يشترط سيميون بيجوف، الذي يتابعه 1.3 مليون شخص على تيليجرام، حصوله على 1950 دولارا مقابل الترويج للمنشور الواحد.
ألكسندر كوتس، في تصريحه لـ"بي بي سي" لم ينف طبيعة عمله، بل أكد أن وزارة الدفاع الروسية تستمع إلى الـ"زد بلوجرز" وهناك قناة مباشرة لتوصيل المعلومات إليهم بشكل خاص، وطبيعة عملهم حتى خارج إطار الحرب باعتبارهم مسوقين للبضائع والخدمات ويحصلون على ثمن ما يقدمونه تماما كأي شركة أو قسم إعلانات في الصحف والقنوات، ولأننا في عصر الحروب التي لن تتقيد ببقعة ولن تتوقف عند حدود دولة بعينها، فلم يعد المطروح سؤالا واحدا، بل أسئلة، منها: هل نشهد مشاهير حرب في كل منطقة صراع لنجد أنفسنا أمام "واي بلوجرز" و"سي بلوجرز" وهلم جرا؟ وهل انتهى دور المراسل الحربي للأبد بما يملكه من ضوابط لنقل الأخبار والأحداث وخضوعه للقوانين؟ وهل سنسلم أخطر الأحداث لأناس غير مختصين وفي أوقات غير مهنيين، خاصة بعد إثبات تورط "زد بلوجرز" في نشر مقاطع فيديو ثبت تزييفها؟ والأهم من كل ذلك: هل تضيع الحقيقة أمام المال والشهرة والنفوذ؟