إيطاليا وانفراط عقد طريق الحرير الصيني
وجهت الصين ضربة قوية للمعسكر الغربي، قبل أربعة أعوام، بعد تمكنها من جذب ثالث اقتصاد في منطقة اليورو للانضمام إلى مبادرة "طريق الحرير الجديد"، فقد كانت إيطاليا الدولة الوحيدة ضمن مجموعة السبع التي انخرطت في هذا المشروع العالمي الذي يبقى، من منظور حلفاء واشنطن، أكبر تهديد للنظام العالمي الحالي. خطوة عدها مراقبون طعنة قوية من للخلف وجهتها إيطاليا إلى بقية الدول الكبرى، فهي بمنزلة صدع في التحالف الغربي ضد المد الصيني المتنامي.
ولا سيما أن الاجماع شبه قائم بين بلدان الاتحاد الأوروبي على أن الصين منافس استراتيجي لا مجرد شريك. وقد سبق لأرسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية، أن أكدت ذلك قبل ربيع العام الجاري، حين عدت أن "الهدف الواضح للحزب الشيوعي الصيني هو إحداث تغيير منهجي للنظام الدولي مع وجود الصين في مركزه".
أخيرا، ارتفعت وتيرة التشكيك في جدوى هذه الاتفاقية الموقعة عام 2019، فأحاديث الإيطاليين عن عوائد استثمارية صينية بديلة عن تفريط الأوروبيين فيهم، تنعش اقتصاد روما الذي عانى ثلاث فترات ركود في غضون عقد من الزمان، مجرد أحلام تبخرت على ضوء أرقام تكشف عن ضعف مكاسب الطرف الإيطالي. واحتدم النقاش أكثر، داخل إيطاليا وفي أوروبا، مع اقتراب موعد التجديد الضمني للاتفاقية، بحلول مارس المقبل، ما لم تخطر روما، وبشكل رسمي، بكين بانسحابها بنهاية العام الجاري.
وشكل تولي جورجيا ميلوني اليمينية المتطرفة، قيادة الحكومة الإيطالية سببا إضافية للتداول بشأن الاتفاقية، فطالما عدت زعيمة حزب "إخوة إيطاليا" حتى قبل فوزها بالاستحقاق الانتخابي، انضمام روما إلى المبادرة خطأ كبيرا، مبدية رغبتها في تدارك الأمر وتصحيحه، فالاتفاق لم يحقق الفوائد المتوقعة منه على البلاد. وكان وزير الدفاع الإيطالي، أكثر حدة، حين عد القرار "عملا مرتجلا وفظيعا"، فثمار أعوام من الانخراط كانت لمصلحة الصين على حساب إيطاليا، ما استدعى مراجعة وتقييما للاتفاقية، قصد الحسم بشأن إمكانية الاستمرارية، أي التجديد الضمني، أو الإعلان عن الانسحاب نهائيا.
الرابح الأكبر .. روما أم بكين
انطلق توطيد العلاقات التجارية بين البلدين في ثمانينيات القرن الماضي، وانتعش مع أول حكومة يسارية في البلاد بقيادة السياسي الإيطالي رومانو برودي، وبلغ ذروته مع رئيس الوزراء الأسبق جوزيبي كونتي، الذي كانت حكومته المضطربة مصممة على الظفر بقطعة من الكعكة الصينية، دون أدنى اعتبار لالتزامات روما مع حلفائها التقليديين داخل الاتحاد الأوروبي وفي حلف الناتو.
كشفت أعوام دخول الاتفاقية حيز التطبيق عن أن الآية انقلبت، بعدما تحولت إيطاليا إلى كعكة للصينيين، فالمؤشرات تفيد بوفرة مغانم بكين مقارنة بروما، فالاتفاق أفضى إلى نسبة زيادة قدرتها 24 في المائة، من 14.5 مليار دولار إلى 18.6 مليار دولار، بالنسبة لصادرات إيطاليا نحو الصين، مقابل مضاعفة للنسبة التي بلغت 96 في المائة، في الاتجاه المعاكس، حيث ارتفع الرقم من 33.5 مليار دولار إلى 65.8 مليار دولار عام 2022.
فضلا عن تنامي الحضور الصيني في الداخل الإيطالي، فرئيسة الوزراء حذرت من تزايد الاعتماد على الصين في مجال البنية التحتية، فخلال العام الماضي نالت شركات صينية عقودا بقيمة 16 مليار يورو من الحكومة، ما يمثل زهاء 20 في المائة من إجمالي العقود بإيطاليا، ما يثير مخاوف من سقوط القطاع بين يدي الصينيين.
تتحقق هذه النسب رغم توجس الحكومات الإيطالية المتعاقبة من الهيمنة الصينية، فمثلا كان رئيس الوزراء الأسبق ماريو دراجي حذرا من الترخيص لعديد من علميات الاستحواذ الصينية، خاصة ما يتعلق بشركة الرقائق الدقيقة أو تصنيع السيارات... خوفا من علميات نقل التكنولوجيا الإيطالية إلى بكين. من جانبها، قامت ميلوني بتقييد نفوذ شركة الكيماويات الصينية العملاقة المملوكة للدولة "سينوكيم"، التي تصل حصتها تقدر بنحو 37 في المائة من شركة صناعة الإطارات الإيطالية، بفرض قيود على نفوذها خوفا من بلوغها نسبة تمكنها من الاطلاع على معطيات تقنية إيطالية حساسة.
على هذا الأساس، تتحرك حكومة ميلوني في سباق مع الزمن لحسم مستقبل المشاركة في المبادرة الصينية، فإيطاليا ملزمة باتخاذ قرار بشأن اتفاقية تعد أن أضرارها أكثر من منافعها، متى أخذنا في الحسبان طموح إيطاليا المتنامي لأداء دور مستقل في النظام الدولي مستقبلا، مستغلة موقعها كثالث اقتصاد في النادي الأوروبي بعد ألمانيا وفرنسا.
إيطاليا .. انسحاب أم مراجعة
قام أنطونيو تاجاني وزير الخارجية الإيطالي، سبتمبر الماضي بزيارة رسمية إلى الصين بغرض الحسم في مصير المشاركة الإيطالية في مبادرة الحزام والطريق، وتتحدث أوساط إعلامية إيطالية عن زيارة مماثلة لرئيسة الوزراء في المقبل من الأسابيع، فالموقف الإيطالي بشأن المسألة بات مسألة وقت فقط، إذ سبق لميلوني أن أوضحت في مقابلة تلفزيونية، أن "القضية تتطلب مناقشات مع الحكومة الصينية وداخل البرلمان الإيطالي".
وقع الانسحاب على بكين يفوق تلك الضربة التي وجهتها للخصوم عند انضمام روما، فالخروج الإيطالي بمنزلة انفراط عقد تراه الصين أمتن من سور الصين، فبكين لا تزال تسعى إلى إقناع روما بتجديد اتفاق المبادرة، مؤكدة أن إيطاليا اتخذت في البداية الاختيار الصحيح بانضمامها. أكثر من ذلك ستقبل بكافة الخيارات، من مراجعة أو تعديل أو حتى إعادة التفاوض من جديد، ما عدا خيار الخروج الذي يبقى مستبعدا.
تنسى الصين أن كل الخيارات سوى التجديد الضمني له تداعيات على مبادرة الحزام والطريق، فأي سيناريو آخر غير تنفيذ الاتفاق كما تم التخطيط له من البداية، يعني تقديم تنازلات من جانب الصين. ما يعد إشارة قوية تشجيع بقية الدول المنخرطة في المشروع على اتباع نهج إيطاليا، للمطالبة من جهتها بمراجعة أو تحديث بنود الاتفاق بشكل أكثر إنصافا لها، يضمن لها منافع أكثر من المبادرة الصينية العالمية.
من جانبها، تسعى إيطاليا إلى تأمين انسحاب سلس من المبادرة، دون إثارة غضب بكين، بالحديث عن وضع أسس اتفاقيات اقتصادية بديلة عن القائمة حاليا، تضمن تعزيز العلاقات التجارية بين البلدين. وكان ممثل الدبلوماسية الإيطالية في زيارته لبكين واضحا بهذا الشأن، حين قال: "لم نحقق نتاج عظيمة فيما يتعلق بالحزام والطريق، لكن هذا لا يهم، فنحن مصممون على المضي قدما في خطط لتعزيز علاقاتنا التجارية مع الصين".
تشجعت إيطاليا للمضي قدما في هذا التوجه، بعدما تأكد لديها أن استثمارات الصين في دول أوروبية غير منخرطة في المبادرة أكبر مما حققته بكثير، فالاستثمار الصيني الأجنبي المباشر يرتكز بشكل كبير في ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وهولندا، فضلا عن تحقيق الصادرات الألمانية والفرنسية طفرة نحو السوق الصينية، حيث بلغت تباعا 112 و25 مليار دولار برسم عام 2022، أي أكبر بكثير من الصادرات الإيطالية التي لم تتعد 18.6 مليار دولار.
تلعب روما بأكثر من ورقة في معركتها ضد بكين، سعيا لتقليل تكلفة الانسحاب قدر المستطاع، فخلال زيارتها واشنطن، صيف العام الجاري، أبدت ميلوني دعما وتأييدا صريحين لتايوان، مشددة على أهمية الحفاظ على السلام والاستقرار في مضيق تايوان. اعتقد بكين أن الأمر مجرد كلام دبلوماسي متناغم مع سياق الزيارة، قبل أن تعقبه خطوات عملية أبرزها افتتاح مكتب ثاني للتمثيلية الدبلوماسية التايوانية على الأراضي الإيطالية.
تحركات تضعف الموقع التفاوضي للصين مع إيطاليا، فالقبول بخروج روما من المبادرة الصينية تكتيك أقل وقعا من مناصرة إيطاليا لتايوان والوقوف إلى جانب الولايات المتحدة وحلفائها في معركة استراتيجية، ترقى لدى صناع القرار في بكين إلى مكانة الأمن القومي الصيني.