عالم فوضوي

لم تكن تلك الرسالة التي وصلتني على بريدي الإلكتروني تشبه أيا من تلك الرسائل التي قرأتها من قبل، ما أدهشني أن صاحب الرسالة يحمل فكرا فلسفيا متميزا ونظرة عميقة للأمور جعلت هذه الرسالة أشبه بمقطوعة أدبية رائعة أو فلنقل محاضرة مصغرة في علم فلسفة الحياة المعاصرة.
يقول صاحب الرسالة:
كنت من الأشخاص الذين يعشقون الحياة الاجتماعية وأجد سعادتي في كثرة الأصدقاء والمعارف واللقاءات والاحتفالات ويغمرني الفرح حين أتلقى دعوات العشاء والمناسبات، كان منزلي مفتوحا على مدار الأسبوع لكل الأحبة، لم أكن أتنفس إلا روحا اجتماعية بحتة.
حين تجاوزت الـ40 اكتشفت أني كنت أعيش في عالم فوضوي تزدحم فيه المصالح وتتشابه فيه طبائع البشر، كانت إصابتي بمرض مناعي نادر بمنزلة البوابة الصدئة التي دلفت منها لفهم حقيقة الحياة، جميع المعارف والأصدقاء والأحبة ذهبوا بعيدا في كل اتجاه كما حبات الزئبق، الدعوات الاجتماعية اختفت تماما، أبواب منزلي لم يعد يطرقها أحد، رنين هاتفي اختفى صوته إلا من اتصالات أمي وإخوتي، انكفائي على ذاتي لفهم هذه التغييرات سحبني نحو منطقة الوعي التي كنت أجهلها طوال هذه الأعوام رغم قراءاتي العميقة.
لم أكن أدرك أن اختياراتنا في الحياة هي المسؤولة عن معظم ما يحدث لنا من خيبات الأمل، من أصعب الأمور التي عانيتها أني كنت أصارع نوبات المرض المؤلمة وفي الوقت نفسه أصارع أفكاري التي كانت تحاول الانعتاق من شرنقتها القديمة، لم يكن ذلك سهلا، لكوني وحيدا دون دعم ومساندة وسط هذا الصراع الداخلي، نظرتي الجديدة للحياة دفعت ثمنها غاليا في عالم فوضوي أصبح شبيها بمحل تجاري، حتى تحصل على الحب والصداقة لا بد أن تدفع الثمن أولا.
لذا تعلمت أن كثرة الأصدقاء الهلاميين مثل غثاء السيل لا نفع منه، فاكتفيت بوجود صديق حقيقي واحد في حياتي، ولم أعد أتمسك بأي شخص زجاجي يهددني بالرحيل، بل أصبحت أودعه وأحرص على إغلاق الباب خلفه ولا أتركه مواربا إطلاقا، تعلمت الاتكاء على نفسي أكثر من ذي قبل، تعلمت أن اللطف الزائد فاتورة يصعب سدادها، تعلمت أن اللامبالاة فن يجلب راحة البال، تعلمت أن السعادة تصنع داخل أنفسنا لا خارجها، وأصبحت مؤمنا بمقولة إدوارد جاليانو "‏الصديق الحقيقي هو صديق الفصول الأربعة، أما الآخرون فهم أصدقاء صيف لا أكثر" وما أكثرهم.

وخزة:
حين تختار صديقك، احرص أن يكون كما قال أحد الحكماء "الصديق الحقيقي هو الذي تتشاجر معه يوميا وتصاب أنت وهو بفقدان الذاكرة في اليوم التالي".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي