سويسرا .. ديمقراطية عريقة بقواعد غريبة في قلب أوروبا
شهدت سويسرا نهاية الشهر الماضي انتخابات برلمانية للولاية التشريعية 2023-2027، لانتخاب ممثلي الأمة السويسرية البالغ عددهم 246 مقعدا في الغرفتين، موزعة ما بين المجلس الوطني، أي مجلس النواب (200 مقعد)، ومجلس الولايات، ويقصد به الغرفة العليا (46 مقعدا)، في واحدة من أعرق وأغرب التجارب الديمقراطية في قلب القارة الأوروبية، نظرا لما تتميز به من قواعد وتفاصيل تبقى سويسرية صرفة، إذ لا نجد لها نظيرا في الديمقراطيات المجاورة.
وفقا للنتائج النهائية في انتخابات بنسبة مشاركة لا تتعدى 46.6 في المائة، وهي من أدنى المعدلات في أوروبا، مقابل عدد ترشيحات قياسية وصلت 5909 ترشيحات، نصيب النساء فيها 41 في المائة، حافظ حزب الشعب السويسري، ذي التوجهات اليمينية، على صدارة المشهد السياسي بعد حصوله على 27.9 في المائة من إجمالي الأصوات (62 مقعدا)، بزيادة قدرها 2.4 في المائة مقارنة بانتخابات عام 2019. مقابل تقهقر حزب الخضر بنسبة 3.4 في المائة، بعد نيله 9.8 من أصوات الناخبين فقط (23 مقعدا). وجاء الحزب الديمقراطي الاشتراكي في المركز الثاني بعد كسبه 18 في المائة من الأصوات، ما يعادل 41 مقعدا، متبوعا بحزب الوسط بنسبة 14.6 في المائة (29 مقعدا)، ثم الحزب الديمقراطي الحر بنسبة 14.4 في المائة (28 مقعدا).
تحدث مراقبون تعليقا على هذه الأرقام، عن انزلاق سويسرا نحو اليمين، فنتائج حزب الشعب السويسري تعد ثالث أفضل أداء انتخابي له على الإطلاق. وصف متسرع بحاجة للتدقيق، في مشهد سياسي معقد جدا، فهذه النتائج كيفما كانت يبقى هامش تأثيرها في مجريات اللعب في البلاد ضئيلا جدا، لأن تشكيل الحكومة لا يقوم على قاعدة الائتلاف أو الأغلبية المطلقة، بل على أساس اتفاق بين أكبر الأحزاب. وذلك ما يفسر الارتفاع المستمر دوما لنسب الممتنعين عن التصويت، لأن ميزان القوى يبقى ثابتا بلا تغيير رغم تعاقب الانتخابات، بخلاف المنعطفات الحادة التي تقلب أحيانا الأمور رأسا على عقب، بعد كل انتخابات في دول الجوار.
حكومة فيدرالية بوزارات ثابتة
تفرد النظام السياسي في سويسرا يبدأ من تركيبة أعضاء المجلس الاتحادي، أي السلطة التنفيذية، فتوزيع المقاعد السبع المكونة للحكومة الجديدة، المرتقب اختيارها من قبل نواب البرلمان في 13 من ديسمبر المقبل، لا يكون على أساس إجمالي الأصوات التي حصدها الحزب أو عدد المقاعد التي نالها في البرلمان، وإنما يكون على أساس مركزه في قائمة النتائج النهائية للانتخابات.
عليه، واستنادا إلى التوافق السياسي المعمول به منذ عام 1959، تحصل الأحزاب الثلاثة الكبرى على مقعدين في الحكومة، فيما ينال الحزب الرابع مقعدا واحدا فقط، بصرف النظر عن الأصوات أو المقاعد في البرلمان. تشكيل الحكومة المكونة من وزراء: "الاقتصاد" و"الخارجية" و"الدفاع" و"الشؤون الداخلية" و"العدل والشرطة" و"المالية" و"البيئة والنقل والطاقة"، من الرباعي المتصدر للانتخابات أولى مميزات الديمقراطية السويسرية.
صيغة جعلت هندسة الحياة السياسية في سويسرا، خلال القرن الـ20، حكرا على أربعة أحزاب فقط، حزب الشعب والحزب الليبرالي الديمقراطي وحزب الوسط والحزب الاشتراكي، فتداول المناصب الوزارية كان محصورا في هذه الأحزاب فقط دون باقي مكونات المشهد الحزبي في سويسرا. فحتى الأحزاب المناصرة للبيئة (الخضر والخضر الليبراليين) التي سطع نجمها في البلد، لم تنجح في بلوغ مواقع التدبير بإسنادها مقاعد وزارية في الحكومة إلا مطلع الألفية الجديدة، مع تزايد الوعي بقضايا ومشكلات البيئة في أوساط الشعب السويسري.
وأسهمت هذه المعادلة إلى حد كبير في استقرار الأوضاع السياسية في البلد، إذ لم يسبق لسويسرا أن شهدت أزمة حكومة أو انتخابات مبكرة، فانتخابات الشهر الماضي مثلت الدورة التشريعية رقم 52 منذ عام 1848 تاريخ إعلان سويسرا كدولة فيدرالية حديثة. امتد هذا الاستقرار ليشمل حتى الوزراء، فتنحية الوزراء الفيدراليين من قبل البرلمان مسألة نادرة في الممارسة السياسية بالبلد، إذ لم تحدث طيلة 175 عاما أن أحجم البرلمان على تجديد الثقة في وزراء سابقين سوى أربع مرات فقط كان آخرها عام 2007.
البرلمان بأغلبيتين نسبة ومطلقة
ارتبط النظام البرلماني بتأسيس الدولة الحديثة في سويسرا، واستقى أسسه من النموذج البرلماني للولايات المتحدة، فكلتا الغرفين (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) بالصلاحيات نفسها، وبذات القوة التصويتية على القرارات. لكنه يبقى قويا مقارنة بـالبرلمان الأمريكي، فالبرلمان السويسري صاحب سيادة مطلقة، ما يجعل قراراته غير قابلة للطعن من قبل الحكومة، بل حتى القضاء ممثلا في المحكمة الفيدرالية، أعلى جهة قضائية في البلد، لا يمكنها بأي حال من الأحوال التشكيك في دستوريته.
يعد الاستقرار صفة ملازمة للنظام السياسي السويسري، فالتغيير في تركيبية السلطة التشريعية على غرار التنفيذية يكون بطيئا جدا، خلافا ما تجري به القواعد في الديمقراطيات الغربية، فالمشهد السياسي كان منقسما، منذ عام 1848، ما بين الحزب الليبرالي الديمقراطي والحزب الديمقراطي المسيحي، حتى اعتماد نظام الاقتراع النسبي عام 1917، الذي كان نقطة تحول في المشهد السياسي، عبد الطريق أمام الأحزاب الصغيرة للمشاركة في الحياة السياسية.
من ناحية الدلالة التمثيلية، يرتبط المجلس الوطني (مجلس النواب) بإجمالي السكان في البالغ عددهم الآن 8.8 مليون نسمة تقريبا، فعدد أعضائه عند تأسيس الدولة انحصر في 111 مقعدا، بمعامل تمثيلي يقارب مقعدا واحد عن نحو 20 ألف نسمة.
ابتداء من عام 1962، ارتفع إجمالي المقاعد بالمجلس إلى 200 مقعدا، ليصبح كل عضو فيه ممثلا عن نحو 40 ألف نسمة، وذلك على أساس قاعدة الاقتراع النسبي، فكل كانتون في البلد يحصل على مقاعد تناسب عدد سكانه، فمثلا كانتون زيورخ حصد 36 مقعدا باعتباره أكثر الكانتونات كثافة في البلد.
خلافا لانتخاب أعضاء مجلس الشيوخ (مجلس الكانوتونات) البالغ عددهم 46 مقعدا دون أي تغيير، حيث يمثل كل كانتون بنائبين في الغرفة عن 20 كانتونا، وتمثل أنصاف الكانتونات وعددها ستة بنائب واحد فقط. يذكر أن عدد أعضاء المجلس كان 44 عضوا حتى عام 1979، حيث أضيف مقعدان بعد إحداث كانتون جورا بالجزء الشمالي الغربي من البلد، وعاصمته ديليمونت.
المزج بين النظامين النسبي والأغلبي في انتخابات البرلمان السويسري إحدى سمات النظام السياسي بالبلد، فعلى أساسا النسب المئوية للأصوات تتحدد التمثيلية داخل الغرفتين، وبناء على هذه النسبة المئوية المحددة لتمثيلية تحسم مراكز الأحزاب السياسية، ما يسمح في النهاية بتحديد الفائز والخاسر في الانتخابات.
تفرد النظام السياسي في سويسرا وتكريس البلاد لمبدأ "الحياد الأبدي" لا يضم بأي حال من الأحوال الانعزال عن الأزمات السياسية الدولية، فالعولمة حولت العالم إلى قرية صغيرة، في المغانم والمغارم على حد سواء. فرزنامة التحديات التي تواجه الحكومة المقبلة في برن لا تختلف عن تلك المطروحة على جدول أعمال الحكومات الأوروبية، بدءا من مشكلة الهجرة وتدفق العمالة، خاصة أن الدولة ترفع رهان عدم تجاوز عشرة ملايين نسمة قبل عام 2050. طموح سياسي من شأنه أن ينعكس على بيئة الأعمال بتراجع العمالة الأجنبية في سويسرا، ما سيؤثر بشكل سلبي في أداء الاقتصادي السويسري.