بكين تتباطأ اقتصاديا وطوكيو تصعد عسكريا
بعد عقدين من الضائقة الاقتصادية، يبدو أن اليابان استعادت نشاطها الاقتصادي في وقت كانت في أمس الحاجة إليه. ومع شروعها في حشد عسكري طموح لمواجهة التهديد المتصاعد الذي تفرضه طموحات الصين الجيوسياسية، فإنها تسعى أيضا إلى ترسيخ مكانتها كزعيم بين الديمقراطيات الآسيوية. بحسب كريس باتن، آخر حاكم بريطاني لهونج كونج ومفوض الاتحاد الأوروبي السابق للشؤون الخارجية، هو مستشار جامعة أكسفورد ومؤلف كتاب (The Hong Kong Diaries Allen Lane، 2022).
يذكر أن باتن مستشار جائزة برايميوم إمبريال، وهي جائزة مرموقة أسست تحت رعاية الأسرة الإمبراطورية اليابانية للاحتفال بالذكرى المئوية لتأسيس جمعية الفنون اليابانية في منتصف فترة ميجي. ومنذ إنشائها 1988، تم تشبيه الجائزة بجائزة نوبل في المجالات الفنية مثل الرسم والنحت والسينما. وفي أعقاب احتفالات هذا العام، قام باتن بزيارة سفوح جبل فوجي، الذي يمكن رؤية قمته المغطاة بالثلوج في بعض الأحيان من طوكيو. ففي هذا الوقت من العام، تقدم هذه المنطقة مشهدا آخر يحبس الأنفاس، حيث إن المنحدرات الموجودة أسفل قمة الجبل مغطاة بحقول عشب البامبا التي تتمايل وتصدر حفيفا في مهب الريح. وهي واحدة من مناطق الجذب السياحي الأكثر شهرة في اليابان.
أثناء زيارتي، يقول باتن: كان حفيف العشب الهادئ يتقطع أحيانا بسبب أصداء إطلاق النار البعيدة. ولم يكن المرء ليشعر بأنه في غير مكانه أي في غزة أو أوكرانيا. لكن ما سمعته كان نيران المدفعية والدبابات من منشأة تدريب قريبة تابعة لقوات الدفاع الذاتي اليابانية.
وقد سلط هذا الحادث الضوء على التحول التاريخي في السياسة الأمنية لليابان. وتحت قيادة الراحل شينزو آبي، بدأت اليابان الابتعاد عن نزعتها السلمية في فترة ما بعد الحرب واحتضنت إعادة التسلح. وقد تسارعت عملية إعادة التوجيه هذه في عهد خلفاء آبي، يوشيهيدي سوجا ورئيس الوزراء الحالي فوميو كيشيدا، حيث كشف كيشيدا عن خطة لمضاعفة الإنفاق الدفاعي إلى 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في غضون الأعوام الخمسة المقبلة.
من المؤكد أن اليابان كانت تدرك منذ فترة طويلة خطورة جيرتها الجيوسياسية. وعلى مر الأعوام، وضعت نفسها كحليف رئيس للديمقراطيات الليبرالية في العالم. وعلى حد تعبير رئيس الوزراء آنذاك ياسوهيرو ناكاسوني في أوائل ثمانينيات القرن الـ20، عدت اليابان نفسها "حاملة طائرات غير قابلة للإغراق" ملتزمة بدعم الولايات المتحدة وغيرها من الدول الديمقراطية ضد التهديد السوفياتي.
إن تحرك اليابان نحو إعادة التسلح يسلط الضوء على دورها المحوري في الحفاظ على الاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ والدفاع عن النظام الدولي في فترة ما بعد الحرب. وبسبب انزعاجها من التطلعات الجيوسياسية المتنامية للصين، خاصة تجاه تايوان، سعت اليابان إلى تعميق العلاقات الدفاعية مع الدول الديمقراطية الأخرى في المنطقة مثل الهند وأستراليا ونيوزيلندا.
ومع اضطلاع اليابان بدور استراتيجي أكثر مركزية في المنطقة، فإنها بدأت أيضا تتحرر أخيرا من عقدين من الضائقة الاقتصادية. فقد أدى انهيار فقاعة الأصول في اليابان في أوائل التسعينيات إلى ربع قرن من الركود والانكماش، الأمر الذي دفع كثيرين إلى الاعتقاد بأن البلاد فقدت سحرها. ولكن "اقتصاد آبي"، سلسلة الإصلاحات التي دافع عنها آبي، جنبا إلى جنب مع السياسات الاستباقية التي انتهجها محافظ بنك اليابان السابق هاروهيكو كورودا، نجحت في تحسين القدرة التنافسية، وفتحت أسواقا جديدة للسلع اليابانية، ووضعت الاقتصاد على مسار التعافي.
والأمر الأكثر أهمية هو أن مرونة اليابان تعكس اعتقادا راسخا بأن الدولة موجودة لخدمة مواطنيها، وليس العكس. وقد مكن هذا البلاد من تنفيذ إصلاحات رئيسية واستعادة الثقة، حتى في الوقت الذي تتصارع فيه مع التحدي الديموغرافي الكبير المتمثل في شيخوخة السكان وتقلص القوى العاملة.
وفي حين أن شعور اليابان الدائم بالوحدة والتضامن مكنها من اتباع سياسات اقتصادية معقولة، فإن الحزب الشيوعي الصيني ناضل من أجل تنفيذ الإصلاحات الحاسمة اللازمة لعكس اتجاه التباطؤ الاقتصادي المستمر في البلاد واستعادة النمو السريع الذي كان يعده أمرا مفروغا منه.
إن دمج الديكتاتورية اللينينية مع الاقتصاد الرأسمالي الديناميكي لم يكن بالأمر السهل على الإطلاق. ولكن بعد أن تولى دنج شياو بينج السلطة في 1978 وأطلق سياسة "الإصلاح والانفتاح" في الصين، بدا الأمر وكأن الحزب الشيوعي الصيني قادر على إنجاح هذا الزواج غير المستقر.
ومع النمو الاقتصادي السريع، مع تضاعف الناتج المحلي الإجمالي تقريبا كل عقد من الزمان، أظهرت السياسة الصينية علامات التحرر. فقد واجهت بيروقراطية الحزب التدقيق العام، وازدهرت المناقشات الفكرية في الجامعات ومراكز الفكر، وعبرت منظمات المجتمع المدني عن وجهات نظر ابتعدت عن خط الحزب الشيوعي الصيني بشأن مجموعة من القضايا، من المخاوف البيئية إلى السياسة الأسرية. وقد انخدع كثيرون بالاعتقاد أن الصين كانت على الطريق نحو التحول إلى دولة ديمقراطية.
وبدلا من ذلك، كان صعود شي جين بينج إلى السلطة في 2012 بمنزلة إعلان عن تراجع جذري. وبدلا من مجرد تعزيز نظام الحزب الواحد في الصين، سعى شي إلى ترسيخ حكم الرجل الواحد إلى أجل غير مسمى. ومع إدراكه القلق المتزايد داخل الحزب الشيوعي الصيني بشأن نفوذه المتضائل، تراجع عن كل خطوة نحو مجتمع واقتصاد أكثر انفتاحا، الأمر الذي أدى إلى خيبة الأمل واليأس بين بعض رجال الأعمال الأكثر نجاحا في الصين.
ومع تباطؤ النمو الاقتصادي وتضاؤل فرص العمل، أصبحت الأجيال الشابة تشعر باليأس. ومع ذلك، استمر شي في رئاسته لنظام سري يتسم بإقالة مفاجئة وغير مبررة لكبار المسؤولين. وقد وصف بعض المراقبين حكم شي جين بينج بأنه "ماو صاحب المال".
لا شك أن شي يؤمن بالسيطرة المركزية. ولكن من أجل الحفاظ عليها، انتهك الصفقة الضمنية التي أقامها الحزب الشيوعي الصيني مع الشعب الصيني: إذا ظل الناس بعيدا عن السياسة، فإن الحزب سيظل بعيدا عن حياتهم الشخصية. وقد أدى خرق الثقة هذا إلى إضعاف الآفاق الاقتصادية للبلاد.
إن التباطؤ الاقتصادي في الصين قد يدفع الحزب الشيوعي الصيني إلى تبني شكل متشدد من القومية الصينية في محاولة للحفاظ على الولاء العام. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى متاعب لتايوان، ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ ككل، والصين ذاتها في الأمد البعيد. ونظرا إلى التهديد الذي تفرضه عدوانية الصين، فليس من المستغرب أن تعمل اليابان على زيادة ميزانيتها الدفاعية وأن تقرر دول أخرى أن تحذو حذو أمريكا وتستكشف السبل لدعم الديمقراطيات الليبرالية في آسيا.
ورغم أن الصين تبدو مستقرة في الوقت الراهن، إلا أنها تمثل استقرار الدولة التي تصمم الدولة فيها على السيطرة على كل جانب من جوانب حياة مواطنيها. ورغم أن مثل هذه السيطرة قد تكون ممكنة، فإنها بلا شك ستؤدي إلى خنق الديناميكية الاقتصادية للبلاد. وفي المقابل، فإن استقرار اليابان يضرب بجذوره في الاعتقاد بأن المجتمع المنفتح والحر الذي تحكمه سيادة القانون هو أفضل وسيلة لتعزيز الانسجام والرخاء المشترك.
إن الفارق بين المسارين الاقتصاديين في الصين واليابان يثير التساؤل التالي: هل يستطيع النظام اللينيني أن يتفوق في الأداء على المجتمع الحر؟ وأيا كانت الإجابة، فإن الصين تواجه معركة شاقة.