ضرورة إعادة التوازن الجيوسياسي العالمي
إن الأزمات والصراعات والحروب المستعرة حاليا تسلط الضوء على مدى عمق تغير المشهد الجيوسياسي في الأعوام الأخيرة، مع عودة التنافس بين القوى العظمى إلى مركزية العلاقات الدولية مرة أخرى. ومع تسبب الحروب في غزة وأوكرانيا في تفاقم الانقسامات العالمية، فإن عملية إعادة تشكيل جيوسياسية أكثر عمقا ـ بما في ذلك التحول إلى نظام عالمي جديد ـ ربما تجري الآن. وفقا لبراهما تشيلاني أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز أبحاث السياسات في نيودلهي وزميل في أكاديمية روبرت بوش في برلين، وهو مؤلف تسعة كتب، منها "المياه: ساحة المعركة الجديدة في آسيا" (مطبعة جامعة جورج تاون، 2011)، الذي حصل على جائزة برنارد شوارتز للكتاب من جمعية آسيا لعام 2012.
وتزيد هاتان الحربان من خطر اندلاع حرب ثالثة حول تايوان. ولا يستطيع أحد ـ خاصة الرئيس الصيني شي جين بينج ـ أن يشاهد الولايات المتحدة وهي تنقل كميات هائلة من ذخائر المدفعية والقنابل الذكية والصواريخ وغيرها من الأسلحة الأمريكية إلى أوكرانيا وإسرائيل من دون أن يدرك أن المخزونات الأمريكية قد استنفدت. وبالنسبة لشي جين بينج، الذي وصف اندماج تايوان في الجمهورية الشعبية بأنه "مهمة تاريخية "، فكلما استمرت هذه الحروب فترة أطول، كان ذلك أفضل.
ويدرك الرئيس الأمريكي جو بايدن المخاطر ويسعى الآن إلى نزع فتيل التوترات مع الصين. ومن الجدير بالذكر أنه بعد إرسال سلسلة من المسؤولين الحكوميين إلى بكين، من المقرر أن تسرق محادثات القمة المزمعة بين بايدن وشي على هامش منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ في الفترة من 15 إلى 17 نوفمبر في سان فرانسيسكو الأضواء. وأكد هو وشركاؤه في مجموعة السبع أنهم يسعون إلى "إزالة المخاطر" عن علاقتهم مع الصين، وليس "الانفصال" عن ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
وأيا كان المسمى، فإن هذه العملية مهيأة لإعادة تشكيل النظام المالي العالمي، فضلا عن أنماط الاستثمار والتجارة. وبالفعل فإن تدفقات التجارة والاستثمار تتغير على نحو يشير إلى أن الاقتصاد العالمي ربما ينقسم إلى كتلتين، على سبيل المثال، تتاجر الصين الآن مع الجنوب العالمي أكثر من تجارتها مع الغرب. وعلى الرغم من التكاليف الباهظة المترتبة على التفتت الاقتصادي، فإن الصين، في سعيها إلى الحد من تعرضها للضغوط المستقبلية، كانت تعمل بهدوء على فصل قطاعات كبيرة من اقتصادها عن الغرب.
إن الولايات المتحدة تتحمل المسؤولية إلى حد كبير عن الوضع الحالي. ومن خلال تسهيل النهضة الاقتصادية للصين على مدى أربعة عقود من الزمن، ساعدت على إيجاد أكبر منافس واجهته على الإطلاق. واليوم تتباهى الصين بأضخم قوة بحرية وخفر سواحل على مستوى العالم، وتتحدى بشكل علني الهيمنة الغربية على النظام المالي العالمي والمؤسسات الدولية. والواقع أن الصين تعمل جاهدة على بناء نظام عالمي بديل، تضع نفسها في المركز.
ورغم أن النظام الحالي يشار إليه في الأغلب بمصطلحات تبدو محايدة مثل "النظام العالمي القائم على القواعد"، فإنه يتركز بلا أدنى شك على الولايات المتحدة. ولم تكتف الولايات المتحدة إلى حد كبير بوضع القواعد التي يستند إليها هذا النظام، ويبدو أيضا أنها تعتقد أنها معفاة من القواعد والأعراف الأساسية، مثل تلك التي تحظر التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. إن القانون الدولي قوي ضد الضعفاء، لكنه عاجز ضد الأقوياء.
وعندما يتعلق الأمر بإنشاء نظام عالمي بديل، فإن البيئة العالمية الحالية المبتلاة بالصراعات ربما تعمل لمصلحة الصين. ففي نهاية المطاف، كانت الحرب هي التي أدت إلى ظهور النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، بما في ذلك المؤسسات التي تدعمه، مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والأمم المتحدة.
حتى إصلاح هذه المؤسسات بشكل هادف أثبت أنه أمر بالغ الصعوبة في أوقات السلم.
ويصدق هذا بكل تأكيد على الأمم المتحدة، التي تبدو في انحدار لا رجعة فيه، وتتعرض للتهميش على نحو متزايد في الشؤون الدولية. وكان الجمود المتزايد في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة سببا في تحويل مزيد من المسؤولية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي اضطرت بشكل خاص إلى تبني قرار بشأن الحرب في غزة يدعو إلى "هدنة إنسانية" ووضع حد للحصار الإسرائيلي. لكن الجمعية العامة ضعيفة في الأساس، وعلى النقيض من مجلس الأمن فإن قراراتها ليست ملزمة قانونا.
ومع تدهور المؤسسات التي تقودها الولايات المتحدة، تتدهور أيضا سلطة أمريكا خارج حدودها. حتى إسرائيل وأوكرانيا ـ اللتان تعتمدان على الولايات المتحدة باعتبارها أكبر داعم عسكري وسياسي واقتصادي لهما ـ رفضتا في بعض الأحيان نصيحة الولايات المتحدة. ورفضت إسرائيل النصيحة الأمريكية بتقليص هجماتها العسكرية وبذل مزيد من الجهود لتقليل الخسائر في صفوف المدنيين في ظل الوضع الإنساني المتردي بالفعل في غزة. وألقى مسؤولون أمريكيون باللوم على انتشار القوات الأوكرانية على نطاق واسع في هجومها المضاد المتوقف.
وبعيدا عن عملية إعادة الترتيب العالمية التي يبدو أن التنافس الصيني الأمريكي يتسبب فيها، فمن الممكن حدوث تحولات إقليمية مهمة.
إن الصراع المطول في غزة من الممكن أن يؤدي إلى عملية إعادة التنظيم الجيوسياسية في الشرق الأوسط الكبير، حيث كل القوى الكبرى تقريبا عبارة عن بناء من القرن الـ20.
وإذا امتد الصراع إلى ما هو أبعد من غزة، فإن التداعيات الجيوسياسية ستكون أبعد مدى. وأيا كان المستقبل، فقد تكون أوكرانيا من بين أكبر الخاسرين. وكما اعترف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فإن الحرب في غزة "تأخذ التركيز" بالفعل عن حرب بلاده ضد روسيا في وقت حيث لا تستطيع أوكرانيا تحمل تباطؤ المساعدات الغربية.
ومع ذلك، فإن مزيدا من القوى والاتجاهات ـ بما في ذلك الاقتصاد الروسي الذي أصبح متزايد العسكرة، والنمو المتعثر في الصين، والثقل الاقتصادي المتنامي للجنوب العالمي ـ تجعل التغييرات الجوهرية في النظام الدولي أكثر ترجيحا.
من ناحية أخرى، يتصارع العالم مع فجوة التفاوت متزايدة الاتساع، وارتفاع الاستبداد، والتطور السريع للتكنولوجيات التحويلية مثل الذكاء الاصطناعي، والتدهور البيئي، وتغير المناخ.
ورغم أنه من المستحيل معرفة التفاصيل، فإن إعادة التوازن الجيوسياسي العالمي الأساسي تبدو الآن حتمية. إن شبح الصدام المستمر بين الغرب ومنافسيه ـ خاصة الصين وروسيا والعالم الإسلامي ـ يلوح في الأفق بقوة.