إعلان "بلتشلي" للذكاء الاصطناعي .. مساع عالمية لاحتواء الجني الساحر
يتضمن اختيار الحكومة البريطانية بلتشلي بارك، الواقعة في باكينجهامشير على بعد 80 كيلومترا شمال غرب لندن، لعقد أول قمة في العالم حول سلامة الذكاء الاصطناعي مطلع الشهر الجاري؛ يومي 1 و2 نوفمبر، رسالة قوية بأكثر من دلالة، فالمكان الواقع بالقرب من خط السكة الحديدية الذي يربط جامعتي أكسفورد وكامبريدج، يعد مسقط رأس العصر الرقمي الرمزي، لاحتضانه أيام الحرب العالمية الثانية مدرسة التشفير السري الحكومي، فهناك نجح آلان تورينج في فك شيفرة آلة إنيجما الألمانية، ما ساعد معسكر الحلفاء بقيادة بريطانيا وفرنسا... على إنقاد الآلاف من الأرواح البشرية، بعد تفوقهم في الحرب ضد النازية.
يعد الاجتماع هناك تحديدا بمنزلة تذكير للمجتمعين وللعالم بأسره، بحجم المخاطر التي تتربص بهم، فالتحديات التي تفرضها المخاطر الناشئة عن تقنيات الذكاء الاصطناعي المتسارعة، على الوجود البشري فوق كوكب الأرض، لا تقل خطورة عن تلك التي واجهت خبراء فك الشيفرات زمن الحرب العالمية الثانية. ما يحتم على كافة الأطراف التعاون وتكثيف الجهود لمعالجة القضايا الشائكة التي تتولد يوما بعد آخر عن الذكاء الاصطناعي.
شارك في القمة نحو 100 مشارك بصفات متنوعة، توزعت ما بين ممثلي 28 دولة من مختلف أنحاء العالم، إلى جانب مديري الأعمال والباحثين في المجال الرقمي، فضلا عن الرؤساء التنفيذيين لشركات التكنولوجيا العملاقة، وذلك قصد تأسيس فهم مشترك للفرص المتاحة في هذا المجال الحيوي، وتجسير سبل التعاون من أجل إطار يضمن للجميع الاستخدام المسؤول لتقيات الذكاء الاصطناعي، فضلا عن الإحاطة بالمخاطر الناشئة عن الإبحار في المياه المجهولة للذكاء الاصطناعي، تمهيدا لوضع اللبنات الأولى لتنظيم تصبح فيه البشرية في مأمن أثناء استعمال الذكاء الاصطناعي.
مبادئ إعلان بتشلي
ثم يقين مطلق يسود في العالم بشأن المخاطر المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، واتضح ذلك بجلاء في كلمات المشاركين، فالتأكيد على المنافع الجمة لهذا "الجني الساحر"، بتعبير الملياردير الأمريكي إيلون ماسك رئيس تسلا ومالك منصة إكس، لا يعني بأي حال من الأحوال تجاهل مخاطره المتدفقة، فالتطور السريع والمتزايد لهذه الأخيرة بات يؤرق صانعي السياسات، لدرجة بات معها السؤال عن كيفية تنظيم الذكاء الاصطناعي وضمان عدم تحوله إلى أداة ضد الإنسانية لازمة تتردد على ألسنة المسؤولين.
حرصت القمة على التأسيس لذلك بتضمين الإعلان خمس مبادئ، بمنزلة قاعدة صلبة يمكن الاستناد إليها للمضي قدما بأمان وطمأنينة في درب الذكاء الاصطناعي:
أولا؛ التعاون الدولي، فهو الخطوة الأولى لتشكيل جبهة موحدة لمواجهة التحديات واغتنام الفرص التي يوفرها عالميا.
ثانيا؛ معايير السلامة، فالتقيد بها عند تصميم وتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي يبقى السبيل الأمثل للحد من المخاطر المرتبطة بهذا المجال.
ثالثا؛ الأخلاقيات في الذكاء الاصطناعي، بالتأكيد على ضرورة احترام حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية والخصوصية، فلا اعتبار للذكاء الاصطناعي دون بوصلة أخلاقية توجهه.
رابعا؛ الشفافية والمساءلة التي تمثل حجر الزاوية لكسب ثقة الجمهور، ما يسهل عملية دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجتمع.
خامسا؛ تعزيز ثقافة المشاركة والتبادلية، فمن شأن ذلك المساعدة على الفهم السريع للمجال، ما يسهم في تخفيف المخاطر المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
لا مراء في قيام الإجماع في صفوف المشاركين حول الحاجة إلى تنظيم الذكاء الاصطناعي، فكما جاء على لسان ميشيل دونيلان، وزيرة شؤون التكنولوجيا في المملكة المتحدة، في كلمة افتتاح القمة ".. لا ينبغي ترك تطور الذكاء الاصطناعي للمصادفة أو الإهمال أو لجهات خاصة وحدها"، لكن الخلافات قائمة حول السبل القمينة لتحقيق ذلك، خاصة وأن ما توج أعمال قمة بتشلي مجرد إعلان، الخفي فيه أكثر من الظاهر، فجوانب رئيسة كثيرة في الذكاء الاصطناعي لا تزال غير محددة، فضلا عن كونه مجرد إعلان غير ملزم لأي طرف.
مجرد الإعلان في حد ذاته قفزة إلى الأمام في نظر مراقبين ردا على أصوات المشككين، فعلى الأقل هنا اتفاق يدعو ويطالب بالتفكير الجماعي في مخاطر الذكاء الاصطناعي. كما أن إصرار المشاركين على تحديد مواعيد وأماكن القمم المقبلة يمثل خطوة ترفع من قيمة الإعلان، فالجميع على موعد بعد ستة أشهر مع قمة ثانية في كوريا الجنوبية، ثم قمة ثالثة في فرنسا بعد عام، ما يؤكد صدق النيات على تحقيق تقدم في مجال لا يزال بكرا وخصبا.
معوقات تعيق الإدارة الدولية
إذا كان إعلان بلتشلي بارك وثيقة مرجعية حول مخاطر الذكاء الاصطناعي في العالم، فإنه انعقاد القمة بحد ذاتها مكسب لحكومة لندن التي استطاعت تنحية الخلافات السياسية بين الدول الكبرى، وجمعت على طاولة واحدة الولايات المتحدة والصين والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي للنقاش والتداول حول ما يحمله الذكاء الاصطناعي من مخاطر كارثية على مستقبل البشرية. ففي القمة مثلا اتفقت جينا ريموندو وزيرة التجارة الأمريكية مع وو تشاوهوي نائب وزير العلوم والتكنولوجيا الصيني على ضرورة الاستجابة الملحة لمخاطر الذكاء الاصطناعي.
وكان ذاك المسعى إحدى دفوعات رئيس الوزراء ريشي سوناك ضد الأصوات المعارضة لدعوة الصين إلى القمة، حين أكد أن أي جهد بشأن سلامة الذكاء الاصطناعي يجب أن يشمل اللاعبين الرئيسين في العالم، وهو ما يتطلب تنويع الأصوات المشاركة في مناقشة تنظيم الذكاء الاصطناعي. وذهبت تصريحات برونو لومير وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي في ذات المنحى، حين تحدث أمام الصحافيين، فيما يشبه إثباتا بمفهوم المخالفة، بأن "وجود دولة واحدة تمتلك كل التقنيات، وجميع الشركات الخاصة، وجميع الأجهزة، وجميع المهارات، سيكون بمنزلة فشل لنا جميعا".
تبقى القمة بالنسبة للمملكة المتحدة ولرئيس الوزراء تحديدا ربحا كبيرا، إذ أعادت إلى الدبلوماسية البريطانية بريقها، وإعادتها إلى الواجهة من باب غير مطروق حتى الآن، إنه باب الذكاء الاصطناعي وما أدراك ما الذكاء الاصطناعي. وبدا ذلك واضحا في دفاع سوناك، وبحماسة شديدة، عن مخرجات القمة، حيث صرح بأن هذا "الإعلان يعد إنجازا تاريخيا، لأن أعظم قوى الذكاء الاصطناعي في العالم تتفق على الحاجة الملحة لفهم مخاطر الذكاء الاصطناعي، ما يساعد على ضمان المستقبل على المدى الطويل لأبنائنا وأحفادنا".
نجاح بريطاني أثار حفيظة قوى منافسة ترى نفسها الأجدر بمثل هذه المبادرات، تتزعمها واشنطن التي حاولت التغطية على الخطوات البريطانية في المجال، بإعلان كامالا هاريس نائبة الرئيس الأمريكي إنشاء معهد أمريكي جديد لسلامة الذكاء الاصطناعي داخل وزارة التجارة، معهد يتوقع أن يطور تقييمات حول مخاطر أنظمة الذكاء الاصطناعي. فضلا عن إمعان ممثلي الإدارة الأمريكية في التذكير بمنجزات بلادهم، ولا سيما ما جاء في مضامين المرسوم الرئاسي التنفيذي، لأكتوبر الماضي، الذي يلزم مطوري الذكاء الاصطناعي باطلاع الحكومة على نتائج إجراءات السلامة.
بلدان الاتحاد الأوروبي تنظر إلى خطوة لندن بعين الريبة، فلا يعقل أن تعود الدولة التي انسلخت من عباءة الاتحاد لقيادة العالم بطرح مبادرة في موضوع حساس بحجم الذكاء الاصطناعي، وهذا ما عبرت عنه بوضوح فيرا جوروفا، نائبة رئيس المفوضية الأوروبية، حين قالت: "لقد جئت إلى هنا للترويج لقانون الذكاء الاصطناعي الخاص بنا"، ثم أضافت عبارة أكثر دلالة ووضوحا "إذا لم يكن العالم الديمقراطي صانعا للقواعد، وإذا لم نصبح نحن متخذي القواعد، فسنخسر المعركة".
بعيدا عن معضلة التنافس السياسي يبقى الغموض الذي يكتنف الموضوع في حد ذاته عائقا أمام تنظيمه، فصعوبة الأمر غير مرتبطة بالمجتمع الدولي بقدر ما تتعلق بالذكاء الاصطناعي نفسه، فحتى الآن لا أحد يعرف كيف يمكنه تحقيق ذلك، رغم توافر قدر كبير من الإرادة السياسية لتحقيق تقدم ملموس في هذا المجال.