اقتصاد أوروبا في هبوط «ناعم»
«لا تهاون في رفع أسعار الفائدة، إذا ما دعت الحاجة إلى هذه الخطوة»
كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي
كما هي الحال على الساحتين البريطانية والأمريكية، الوضع الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي عموما، وفي منطقة اليورو خصوصا، ليس واضحا بما يكفي لإطلاق التوقعات القريبة من الواقع. وهذا أمر ليس غريبا، في ظل حالة من عدم اليقين على الساحة الأوروبية، مع عدم السيطرة بما يكفي على مسار التضخم، وإن تحققت قفزات نوعية في الأشهر الماضية، حيث تمكنت هذه المنطقة من خفض أسعار المستهلكين، لكن ليس بالمعدلات التي تكفل الاقتراب من 2 في المائة، وهي الحد الأقصى الرسمي الذي ينبغي للتضخم بلوغه وفق المشرعين الأوروبيين. في الواقع، هذه النسبة صارت منذ أعوام عالمية، تضعها الحكومات من أجل السيطرة على أسعار المستهلكين، وتخفيف المعاناة المالية عن كاهلهم.
الذي يزيد المشهد الاقتصادي الأوروبي تعقيدا في الوقت الراهن، هو أن الأرقام الجديدة تشير إلى تراجع الحراك الاقتصادي في أوروبا ومنطقة اليورو بصورة أكبر مع بداية الربع الأخير من العام الجاري. الفترة الحالية يمكن اعتبارها انتقالية على هذه الساحة، لأن المشرعين ينكبون حاليا على قياس تأثير التشديد النقدي السابق، الذي تم بالتدريج على دفعات، بما في ذلك الوصول إلى استنتاج واقعي حول ما إذا كانت الأجور تكيفت فعلا مع التضخم. وهذه النقطة تعد حساسة في قراءة التطورات الاقتصادية عموما، خصوصا عندما لا تكون هناك سيطرة محكمة على مسار التضخم، بصرف النظر عن القفزات الجيدة التي تحققت في الأشهر الماضية. وهذه القفزات رغم أهميتها لم تترك مجالا أمام البنك المركزي الأوروبي لإغلاق الباب "ولو فترة" أمام رفع الفائدة في المراجعات المقبلة. ماذا فعل في المراجعة الأخيرة؟ قام بتجميد تكاليف الاقتراض عند 4.5 في المائة.
أظهرت البيانات الرسمية الأخيرة، أن اقتصاد منطقة اليورو التي تضم 20 دولة، انكمش بنسبة 0.1 في المائة في الربع الثالث من هذا العام. وفي الوقت الذي كانت الحكومات تسعى لبذل كل ما تستطيع لإبقاء الوضع في حالة التباطؤ، أتى هذا الانكماش، وإن كان بنسبة منخفضة للغاية. فأي مؤشر سلبي مهما كانت بسيطا، يؤثر سلبا في الساحة، ولا سيما على صعيد العامل النفسي. من أكثر العوامل التي أدت إلى الانكماش، تراجع الطلب على الخدمات، في حين تدل مؤشرات على أن الربع الأخير من العام الحالي، يمكن أن يواصل الاقتصاد الأوروبي عموما مسيرة الانكماش، بصرف النظر عن نسبته، الأمر الذي سيدخل الاقتصاد المشار إليه العام المقبل في وضعية ليست مريحة، ربما تؤثر في مسار التعافي الربع الأول من 2024.
الذي يزيد من "تكدس الغيوم" الاقتصادية، الارتفاع الأخير لمعدلات البطالة في منطقة اليورو، التي بلغت وفق مكتب الإحصاء الأوروبي "يورستات" إلى 6.5 في المائة، بسبب نسبة الفائدة العالية، وآثار الركود الظاهرة في هذه المنطقة. واللافت أن الاقتصادات الثلاثة الأكبر في "اليورو" تعيش أداء سيئا يتقدمها الفرنسي، ويأتي بعده الألماني ومن ثم الإيطالي. ما يزيد المشهد صعوبة في المرحلة المقبلة. ولا شك أن هذه الاقتصادات قادرة على الصمود، وتستطيع أن تحول أدائها في المرحلة المقبلة إلى مستوى أفضل، لكن المؤثرات السلبية الآتية منها في الوقت الراهن، ترفع من دقة التوقعات بإمكانية حصول انكماش في الأشهر المتبقية من العام الحالي. فالتشديد النقدي، يؤثر بصورة سلبية محورية على سوق العمل، كما يؤثر بالطبع في مسار النمو المأمول من جانب المشرعين الأوروبيين.
المهمة الرئيسة الآن في الاتحاد الأوروبي عموما، ومنطقة اليورو خصوصا، استعادة ما يعرف بثقة المستهلكين. فهذه الأخيرة تراجعت بقوة في الفترة الماضية، وفق مسح قامت به المفوضية الأوروبية. والقلق الناتج عن ذلك يختص بمستقبل الاقتصاد عامة. المشهد ليس براقا بالفعل، ولا مجال الآن للاستناد إلى أي مؤشرات قد تكون إيجابية. فأغلب هذه المؤشرات ليست مستدامة، وسرعان ما ينتهي "مفعولها". من هنا يمكن فهم تحذيرات صندوق النقد الدولي الأخيرة للأوروبيين بـ "عدم الاحتفال السابق لأوانه" بانخفاض التضخم. فالخطوات التي يجب أن تتخذ كثيرة وطويلة في آن معا، لبلوغ حالة "احتفالية" ما. هل ستكون هنا جولة مؤلمة جديدة من رفع الفائدة؟ هذا الأمر ليس مستبعدا، ولا سيما في ظل تمسك المشرعين الأوروبيين بسياسة التشديد النقدي بصرف النظر عن انعكاساتها المباشرة على نمو لن يتحقق على الأقل بحلول العام الجاري.
يواجه الاقتصاد الأوروبي الآن ما اصطلح على تسميته "الهبوط الناعم"، وهذا الهبوط ضرب الاقتصاد الأمريكي في الفترة السابقة، ويضرب حاليا الاقتصاد البريطاني، والقدرة على الصمود والاحتفاظ بوضعية اقتصادية متباطئة، عاملان أساسيان في السيطرة على الانكماش المتوقع بنهاية العام الحالي. مع ضرورة عدم المراهنة من قبل المؤسسات والشركات وقطاع الأعمال، على إمكانية خفض الفائدة في المراجعات المقبلة. فالفائدة الصفرية التي سادت الساحة الأوروبية أعواما عديدة، لن تعود بسرعة، وربما لن تظهر مرة أخرى قبل نهاية العقد الحالي. فالظروف التي مر بها الاقتصاد الدولي عموما تترك آثارها بقوة على كل الساحات حول العالم.