بايدن وشي .. منعطف جديد في العلاقة الثنائية
انعقدت في الفترة ما بين 11 إلى 17 نوفمبر، في وودسايد بخليج سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ، المنتدى الدولي الذي يمثل آلية حوار حكومي، أنشئت عام 1989 بهدف رفع مستوى المعيشة والتعليم من خلال تحقيق نمو اقتصادي متوازن، بعضوية 21 دولة في حافة المحيط الهادي، تضم نحو 40 في المائة من سكان العالم، و48 في المائة من حجم التجارة الدولية، ونحو 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
خلافا للقمم السابقة، كانت دورة سان فرانسيسكو محل متابعة واهتمام إعلامين كبيرين، يتعدى مجرد منظمة غير متمتعة بمركز منظمة دولية، فهذه القمة استثنائية فعلا، ليس لذاتها ولا لأجندتها أو حتى المواضيع قيد التداول، بل بالنظر إلى السياق العالمي الذي تنعقد فيه، فضلا عن طبيعية المشاركين ومستوى التمثيلية. بمعنى آخر، شهد المنتدى مشاركة كل من الصين وروسيا بتمثيلية دبلوماسية وازنة، فحضر الرئيس الصيني شخصيا، وأوفدت موسكو نائب رئيس الوزراء، إلى قمة على الأراضي الأمريكية.
هكذا تحول لقاء الرئيسين الأمريكي جو بايدن والصيني شي جين بينج، الأربعاء الماضي 15 من الشهر الجاري، وامتد نحو ثلاث ساعات إلى حدث سياسي عالمي، تجاوز حدود ومخرجات القمة أبيك، بعد قطيعة دامت سنة، لكونه اللقاء الثاني بين الرجلين وجها لوجه، منذ وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض. فآخر لقاء بين الزعيمين كان على هامش قمة مجموعة العشرين، في مدينة بالي في إندونيسيا. أما آخر زيارة للقائد الصيني إلى واشنطن فتعود إلى عام 2017.
بايدن وشي .. شكاوى متبادلة
دخلت العلاقات بين واشنطن وبكين منعطفا خطيرا خلال ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، باتخاذه قرارات ضد الشركات الصينية لإنعاش الاقتصاد المحلي على حساب التبادل التجاري الصيني - الأمريكي. خلافا للآراء التي كانت تتوقع انفراجة على هذه الجبهة، استمر جو بايدن في النهج نفسه، سعيا منه لاستعادة قوة التصنيع الأمريكي. فقادت إدارته حملة دولية لتضيق الخناق على شركات التكنولوجيا الصينية، لقطع الطريق أمام بكين للريادة في هذا المجال. وزاد تباين مواقف الطرفين بشأن الحرب الروسية - الأوكرانية، وارتفاع التصعيد الصيني بشأن تايوان العلاقات تعقيدا وتأزما، فبات الصراع على أشده بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم.
ارتفاع حدة المنافسة وتزايد البؤر الساخنة في أكثر من منطقة في العالم أثقل كاهل الولايات المتحدة، ما دفع مهندسي الدبلوماسية الأمريكية إلى البحث عن طرق أخرى لتدبير الصراع، فالقاعدة المتأصلة في السياسة الأمريكية تقضي بأن فشل منطق القوة يفرض إعمال الدبلوماسية. وهذا تحديدا ما جاء في بيان كارين جون بيير المتحدثة باسم البيت الأبيض، حين أكدت أن "الإدارة الأمريكية تريد إدارة المنافسة بطريقة مسؤولة بين واشنطن وبكين". يشكل ذلك إثباتا لقاعدة أمريكية أصيلة مفادها أن فشل منطق القوة في تحقيق النتائج يفسح المجال للدبلوماسية.
لكل ذلك، وجدت الإدارة الأمريكية نفسها مجبرة على الجلوس إلى الطاولة نفسها مع غريمها الأول، سعيا لإذابة جليد الخلافات المعقدين بين الطرفين، حتى إعادة ضبط قواعد التنافس بين البلدين. فمعطيات الواقع أظهرت أن الغريمين، وعلى الرغم من فك الارتباط والحرب التجارية، كسبا منافع مهمة، فحجم التجارة برسم العام الماضي بينهما بلغ ستة مليارات دولار. ما يفرض وجوبا إعادة ترتيب للأولويات بفرز الملفات المشتركة العالقة، بحسب درجات التعقيد، أو اعتماد مبدأ فصل التجاري عن السياسي عن العسكري، فالحصار والعقوبات وشتى فنون الحرب الاقتصادية وقطع خطوط الاتصال ضارة بمصالح الطرفين.
ما جعل لقاء الأربعاء الماضي بين الزعيمين، حسب عدد من المراقبين، أشبه بجلسة مكاشفة وفرز لكل مواطن الخلاف بينهما، وهذا ما عبر عن الرئيس الأمريكي خلال تعليقه على اللقاء، بقوله: "أقدر المحادثات التي أجريتها اليوم مع الرئيس شي، لأنني أعتقد أنه من الأهمية بمكان أن نفهم بعضنا البعض بوضوح، زعيما لزعيم... هناك تحديات عالمية حرجة تتطلب قيادتنا المشتركة، واليوم أحرزنا تقدما حقيقيا".
واقعيا، كان الأمر كذلك، بحسب ما تداولته وسائل الإعلام، فقد خاطب الرئيس الصيني مضيفه قائلا: "إن الصين لا تسعى إلى تجاوز الولايات المتحدة أو إزاحتها"، مشددا على أنه "لا ينبغي للولايات المتحدة أن تسعى لقمع الصين واحتوائها". مقابل ذلك تحدث الرئيس الأمريكي عن أشياء كثيرة، منها مطالبة ضيفه بضرورة "احترام الصين العملية الانتخابية الرئاسية في تايوان مطلع العام المقبل". فضلا عن ذلك اتفق الطرفان على "إبقاء خطوط الاتصال مفتوحة، بين الرئيسين بايدن وشي".
الحاجة المتبادلة للتهدئة
لم تخف الإدارة الأمريكية رغبتها في تسوية كافة الخلافات مع الجانب الصين، بحسب جيك سوليفان مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض الذي أكد أن إعادة العلاقات مع الصين، بما في ذلك العلاقات العسكرية، يصب بصورة رئيسة في مصلحة الأمن القومي الأمريكي. فواشنطن بحاجة ماسة إلى تقليل جبهات التوتر في العالم قدر المستطاع، للسير بأريحية إلى محطة الانتخابات الرئاسية 2024، التي انطلق العد العكسي لها مطلع الشهر الجاري.
يبدو أن توجها وسط إدارة بايدن ينزع نحو تهدئة جبهات الصراع، ولا سيما أن بكين منافس واشنطن على قمرة قيادة العالم، لذلك تحاول رأب الصدع بتحقيق حد أدنى من التقدم يسمح بإعادة الدف للعلاقات بين الطرفين، خاصة في تلك الملفات التي بمقدور الطرفين الوصول بسهولة إلى تفاهمات بشأنها. وبدا الرئيس الأمريكي في وضع من يساوم بكين حين أكد بأن "الشعب الصيني يمر حاليا بوضع اقتصادي صعب، وسيكون من المفيد للجميع أن يحصل المواطنون الصينيون على وظائف ذوات أجور جيدة".
لا يمكن وصف العودة الأمريكية نحو الصين أشبه بعودة المضطر، بعد تجاهلها للدعم الصيني لروسيا باعتبارها حليفا استراتيجيا لا يمكن التخلي عنه، فرهان الأمريكيين بالدرجة الأولى على القضايا التجارية ذات العائد المتبادل، مع التأكيد على التحفظ متى ارتبط الأمر بمسائل من صميم الأمن القومي، وهذا ما أكده الرئيس الأمريكي لنظيره الصيني، "لكن على الرغم من أننا نريد الاستثمار في الصين، فإنني لا أستطيع دعم المواقف التي تتطلب منا الكشف عن جميع أسرارنا التجارية".
على أن تكون التجارة جسر عبور الطرفين للتداول بشأن باقي المسائل السياسية والعسكرية، فإبقاء أبواب التواصل مشرعة على الجانبين يضمن الحيلولة دون حدوث انفجار في الملفات الكبرى مثلما هي الحال مع الأزمة التايوانية التي تعدها بكين من صميم المصالح الأساسية للصين، حتى إن الرئيس الصيني تحدث عن أن "المخاوف بشأن الجزيرة هي أكبر وأخطر قضية في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين".
من جانبها، ترى الصين في هذه العودة فرصة مثالية لانتزاع أكبر قدر من المكاسب، على رأسها إنعاش النمو الاقتصادي المتباطئ، فضلا عن إيقاف معركة تكسير العظام بين الطرفين، ما يشكل بالنسبة للصين مناسبة لدبلوماسيتها الناعمة لتوسيع وتقوية حضورها على الصعيد العالمي، بدعم وتأييد كافة المبادرات والمؤسسات والتكتلات التي تقوض الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي، فالمنافسة الهادئة والسلسة أفضل ألف مرة من التدافع القوي والخشن.
أيا كانت نتائج اللقاء بين القائدين الأمريكي والصيني، يبقى استئناف الحوار بين واشنطن وبكين إنجازا بحد ذاته، لأنه فتح المجال للتواصل المباشر بين الرجلين، فضلا عن كونه صمام أمان لتطويق أي أزمة في المستقبل. أما خلافات الحاضر، فإحزار تقدم بشأنها يتطلب مزيدا من الوقت كالذي أفرزها أو ربما أكثر.