موسم الرياض .. تفعيل مثمر للقوى الناعمة السعودية والعربية
حول الطاولة يجلس الجميع سعداء، على اليمين الملاكم الأمريكي مايك تايسون منهمك في حوار رياضي مع نجم النصر العالمي كريستيانو رونالدو، وبجوارهما يتبادل الممثل التركي برواك أوجيفيت الآراء مع نظيريه المصريين أحمد عز ومحمد هنيدي، وفي الجهة المقابلة يستمع الثلاثي "نانسي عجرم – أصالة – محمد حماقي" إلى الفنان السعودي الكبير رابح صقر وهو يتجول بحنجرته الموسيقية بهم في أعماق التراث الفني العربي، متوقفا عند مراحله المفصلية، أما المشاهدون من خلف الشاشات فكانوا مندهشين: كيف استطاعت السعودية جمع الأساطير على طاولة واحدة؟.
هذا المشهد ليس أكثر من جزء صغير من حفل افتتاح موسم الرياض الذي أقيم منذ أيام، فإذا كانت القاعات تعج بالنجوم من كل مكان في العالم، ففي الخارج وعلى مساحة 14 مليون متر مربع، هناك ملايين العوائل الذين أضحى موسم الرياض بالنسبة لهم هو المتنفس الوحيد لرسم البسمة على وجوههم ووجوه أطفالهم، على غرار عشرات الآلاف من الزوار والسائحين صوب العاصمة السعودية، التي يحيطها مناخ متقلب ضمن المنطقة حيث كثرت فيه الأحداث والأحزان وبات أمل عديد بقعة آمنة تشبه جوهرة الشرق الأوسط.
تلك الحقيقة ليست وليدة هذا العام، فخلال الأعوام الماضية وتحديدا منذ 11 أكتوبر 2019، وهو تاريخ انطلاق موسم الرياض، جسد هذا الكرنفال الترفيهي الأضخم في منطقة الشرق الأوسط حالة خاصة، فالناس التي كانت تتلهف للاستمتاع بنجم واحد فقط، وجدت نفسها على موعد سنوي لرؤية من يحبون، بداية من بطل المصارعة الأسطوري أندرتيكر في 2019 ووصولا إلى مغنى الراب العالمي إيمينم في 2023، والفنانين خاصة العرب وجدوا في المملكة وجهة فنية عالمية يمكن من خلالها توصيل أعمالهم، وكذلك المبدعين والكتاب باعتبار الرياض عاصمة ثقافية أصيلة.
وإذا كانت تلك هي النتائج المباشرة، فالنتائج غير المباشرة أهم وأعمق، فبسبب تلك الحالة استطاع موسم الرياض أن يحقق أمرين، أولهما، حفاظه على القوة الناعمة العربية من خلال توفير ساحة عالمية لتقديم الأعمال الإبداعية بكل أنواعها من فن ومسرح وحفلات غنائية، والثاني أنه قدم للعالم قوة ناعمة جديدة وجدت في موسم الرياض منفذ تطل به على العالمية، خاصة في ظل وجود نجوم عالميين، ما وفر مناخا مناسبا لتبادل الخبرات وإثقال المواهب.
للوقوف على أهمية ذلك، نعود إلى الفنانة المصرية سميحة أيوب التي تقول في مذكراتها التي حملت عنوان "ذكرياتي": إن الفنانين بعد نكسة 1967 طرقوا كل الأبواب خارج مصر من أجل الاستمرار في العمل، واستوطنوا حينها في عاصمتين هما باريس وبيروت، وبحسب "أيوب"، فإن هذا الطرق لم يكن غرضه المال فقط، فهناك من استمر في العمل لجمع أموال يساعد بها الجيش المصري مثل "أم كلثوم"، وهناك من كان يروج لقضية بلده مثل "عمر الشريف" وآخرون كانوا يريدون البقاء على قيد الشاشة فقط، وبصرف النظر عن تعدد الأغراض، فإن استمرارهم في العمل رغم الظروف الكارثية، كما يوضح الناقد الفني المصري كمال رمزي، كان أكثر فعل إيجابي خلال تلك الفترة، إذ حافظت الدول العربية على قوتها الناعمة التي شكلتها عبر عقود فلم تفرط في ثروتها الحقيقية.
وما أشبه اليوم بالبارحة، فخلال الأعوام الماضية ومع الاضطرابات التي سادت بعض الدول العربية، وجد الفنانون والمبدعون أنفسهم في مأزق، لكنهم تلك المرة لم يلجأوا إلى عواصم غربية، أو يقفوا طوابير أمام السفارات في انتظار إذن الدخول، وذلك لأن هناك دولة عربية مثل المملكة بكل ثقلها الثقافي والحضاري صارت قادرة على احتضان تلك القوى والحفاظ عليها، وتوفير الوجود المستمر لها من أجل الحفاظ عليها كثروة بشرية للأمة كلها، ولم يكن ذلك ممكنا لولا وجود موسم الرياض.
وإذا كانت تلك أولى الدلائل والفوائد، فثانيها أمر ملموس تدلل عليه الأرقام، إذ استهدف الموسم الأول خمسة ملايين زائر وكانت النتيجة عشرة ملايين زائر، ثم وصل العدد إلى 12 مليون زائر في عام 2022، ومن المتوقع أن يزيد هذا العدد خلال الموسم الجاري، ولأن الأرقام ليست صامتة، بل تحمل دلالتها، فبسبب هذا الإقبال الضخم استطاع موسم الرياض أن يوفر 150 ألف وظيفة العام الماضي، و187 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة خلال العام الجاري، فيما المستهدف أن يصل هذا العدد إلى 200 ألف فرصة خلال العام المقبل، تلك الأرقام يمكن مضاعفتها تلقائيا لو حسبنا عدد العمال المسؤولين عن الأسر وكيف يعد هذا الكرنفال مصدر رزقهم أو طوق نجاة لتحسين جودة حياتهم.
لم تقف الأرقام عند عدد الموظفين، فقد وصل عدد الشركات التي تشارك في موسم الرياض إلى 1680 شركة في 2023 والمستهدف أن تصل إلى 2000 شركة خلال العام المقبل، وما يعظم من الفوائد أن 95 في المائة من تلك الشركات محلية خاصة، إذ لا يتعدى عدد الشركات الحكومية شركتين أو ثلاث، أما الأرباح فوصلت إلى ستة مليارات ريال مقابل إنفاق 3.1 مليار ريال في 2021، وبحسب المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه، فإن أكثر من 70 في المائة من عوائد فعاليات موسم الرياض الحالي تحققت قبل أن تبدأ.
هذا النجاح لم يرتبط فقط بتوقيت موسم الرياض، بل يستمر طوال العام من خلال نتائجه على المدى الطويل، فبسبب موسم الرياض زاد عدد السائحين في المملكة طوال العام بنسبة 30 في المائة في عام 2019 مقارنة بالعام الذي سبقه، كما وصلت نسبة إشغالات الفنادق في 2020 إلى 99 في المائة من طاقتها الاستيعابية، وهكذا في مختلف نواحي الحياة الاقتصادية ليجد ملايين الناس مصدر لرزقهم، وهذا ما يجعل موسم الرياض بجانب رسالته الترفيهية، قصة اقتصادية ناجحة على كافة المستويات، سواء من خلال توفير فرص عمل، أو بتشجيع الصناعات المحلية وتعظيم الاستفادة منها، بل وإظهار قدراتها على تنظيم كرنفال بتلك الضخامة، ما يؤهلها للقيام بذلك عالميا.
يبقى السؤال الآن، في وسط عصر مزدهر تتقدم فيه المملكة المؤشرات العالمية من حيث التنمية والاقتصاد والرقمنة والبنية التحتية، وليس ذلك فحسب، بل إننا نشاهد كل يوم فعالية جديدة تحت رعاية الهيئة العامة للترفيه معها تقدم لأبناء وبنات المملكة فرصة عمل حقيقية وجادة، أبرزها "فيا الرياض" و"ذا جروفز" و"بوليفارد سيتي" وأيضا "بوليفارد وورلد".. بينما كان آخرها منطقة "وندر جاردن"، حيث يستمتع الأطفال بنحو 70 لعبة حماسية ومختلفة ليعيشوا أعمارهم وسط التجارب الممتعة والمغامرات الاستثنائية. فهل هناك حقا أجمل من موسم الرياض 2023؟.