الاتحاد الأوروبي 2030 .. «مقاس واحد يناسب الجميع» حل غير مطروح
تستغل إسبانيا رئاستها مجلس الاتحاد الأوروبي لتجسيد مفهوم "الاستقلال الاستراتيجي المفتوح" من خلال مخطط تفصيلي جديد لتحقيق الأمن الاقتصادي والجيوسياسي. ورغم أن الوثيقة بعيدة عن الكمال، فإنها تعد بدفع المناقشة التي تحتاج إليها أوروبا بشدة إلى الأمام. بحسب التقرير المشترك لتشارلز باول مدير معهد إلكانو الملكي. وناتالي توتشي مديرة Istituto Affari Internazionali. وجونترام وولف المدير والرئيس التنفيذي للمجلس الألماني للعلاقات الخارجية.
في مواجهة عديد من الخلافات بين الدول الأعضاء، سعى الاتحاد الأوروبي إلى تحسين مفهومه للاستقلال الاستراتيجي على مدى الأعوام القليلة الماضية. والآن تعتزم إسبانيا استغلال رئاستها مجلس الاتحاد الأوروبي لإضفاء قدر أعظم من التماسك والمضمون على هذه المناقشة. وإذا نجحت فإن أوروبا تكون قد اتخذت خطوة مهمة نحو تعميق التكامل.
لقد تطور مفهوم الاستقلال الاستراتيجي بشكل كبير بالفعل. وقد نشأ هذا المبدأ في مجال الدفاع، ثم ظهر لأول مرة في وثيقة رسمية للاتحاد الأوروبي في 2013. ثم أصبح أحد مبادئ السياسة الخارجية في الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي لعام 2016، قبل أن يمتد أخيرا إلى المجال الاقتصادي مع التزام الكتلة الجديد بـ"الاستقلال الاستراتيجي المفتوح". في عام 2020.
والفكرة الأساسية تتلخص في أن الأوروبيين لا بد أن يكونوا قادرين على العيش وفقا لقوانينهم الخاصة والدفاع عن مصالحهم من دون تدخل (أو مساعدة) أجنبية. ولكن نظرا إلى طبيعة الاتحاد الأوروبي التعاونية، وقدرته على اتخاذ القرار على أساس الإجماع، والعلاقات الاقتصادية العميقة مع بقية العالم، فإن العمل الخارجي لا بد أن يعمل على إيجاد توازن دقيق. ويجب أن تكون متعددة الأطراف عندما يكون ذلك ممكنا، وأحادية الجانب عندما يكون ذلك ضروريا.
بين وباء كوفيد - 19، والحرب الروسية الأوكرانية، والمنافسة الصينية الأمريكية المتزايدة، وعودة السياسة الصناعية، لدى الاتحاد الأوروبي أسباب كافية لإعادة النظر في علاقته مع بقية العالم، وترسيخ الاستقلال الاستراتيجي المفتوح. ضمن نموذج أمني اقتصادي جديد. لقد انتبه الأوروبيون إلى حقيقة مفادها أن الاعتماد المتبادل لا يشكل مصدرا للأمن والرخاء فحسب، بل أيضا مصدرا للضعف المحتمل.
ولرسم مسار إلى الأمام، أصدرت الرئاسة الإسبانية لمجلس الاتحاد الأوروبي تقريرا تحت عنوان "الاتحاد الأوروبي 2030 قادر على الصمود: نهج موجه نحو المستقبل لتعزيز الاستقلال الاستراتيجي المفتوح للاتحاد الأوروبي والقيادة العالمية"، وهي خارطة طريق تقدم خمس مساهمات إيجابية لهذه المناقشة.
فأولا، تستحق العملية التي أنتجت خارطة الطريق الثناء، لأنها اعتمدت على وجهات نظر جميع الدول الأعضاء الـ27 (إضافة إلى المفوضية الأوروبية)، حتى على مسائل مثيرة للجدال مثل المبدأ الذي مفاده أن السياسة الصناعية للاتحاد الأوروبي لا بد أن تتبع منطقا أوروبيا في الغالب.
ثانيا، تقدم خطة الاتحاد الأوروبي 2030 المرنة جرعة ترحيب من الواقعية والتفاؤل. فهو لا يشتمل على تقييم صريح لنقاط الضعف التي يعانيها الاتحاد الأوروبي فحسب، بل إنه يشتمل أيضا على مقترحات بناءة للتغلب على هذه النقاط.
ثالثا، تؤكد خارطة الطريق بحق على أهمية الانفتاح والتعاون الدولي. ويتعين على الاتحاد الأوروبي أن يظل حازما في تصميمه على عدم الانعزال عن العالم. إن الانفصال عن الصين، بشكل خاص، أمر غير ممكن، وسيكون مكلفا للغاية إذا حاول.
رابعا، تتباهى الوثيقة بقدر كبير من الجوهر، مع فصول مفصلة حول كيفية تنفيذ توصيات سياسية محددة ومبتكرة في مجالات الصحة والغذاء والتكنولوجيا الرقمية والطاقة. وهو يقدم أيضا حججا جيدة حول الكيفية التي قد يصبح بها الاتحاد الأوروبي أكثر مراعاة للبيئة وأكثر قدرة على المنافسة في حين يظل منفتحا.
وأخيرا، تعترف خطة الاتحاد الأوروبي 2030 المرنة بحكمة بأن النظام الدولي يحتاج إلى الإصلاح، وليس مجرد حمايته أو الحفاظ عليه، وأن أوروبا قادرة على الاضطلاع بدور قيادي في هذه العملية، في حين تشمل أيضا الجنوب العالمي.
ولكن مثل أي وثيقة استراتيجية طموحة، فإن هذه الوثيقة تعاني بعض أوجه القصور. فبادئ ذي بدء، ينبغي لأي جهد يرمي إلى رسم سيناريوهات المستقبل أن يخصص دورا محددا للتقلبات، وعدم اليقين، والمخاطر. يتسم عالم اليوم بتزايد الاستقطاب والانقسام السياسي، على المستويين الدولي والمحلي. وعلى هذا فإن الاستجابات السياسية لا بد أن تركز على القدرة على التكيف والطوارئ، ولا بد أن تتضمن أدوات الأمن الاقتصادي "الهجومية" (مثل العقوبات) إضافة إلى الأدوات الدفاعية.
ثانيا، على الرغم من أن خطة الاتحاد الأوروبي 2030 المرنة تتضمن نظرة تفصيلية على تبعيات السلع (تشير إلى 323 منتجا محددا)، فإنها تولي اهتماما أقل بكثير للخدمات. ومع ذلك، فإن الخدمات (والمنصات) هي التي ستشكل تطور الاقتصاد العالمي. وهذا يعني أن السوق الموحدة للخدمات في الاتحاد الأوروبي ستشكل عاملا حاسما في قدرته التنافسية في المستقبل. وإذا علمتنا التجربة الأخيرة أي شيء، فهو أن العلاقات الاقتصادية الشاملة التي تشمل السلع والخدمات والاستثمارات يمكن استخدامها كسلاح بسهولة مثل تلك التي تم تعريفها بشكل أضيق.
وثالثا، يضع النص قدرا كبيرا من الثقة بتحالفات الاتحاد الأوروبي مع الدول ذات التوجهات المماثلة. إن الأفضليات الفردية للدول الأعضاء تخضع دائما للتغيير السياسي، وعديد من الشركاء المحتملين ـ مثل البرازيل والهند ـ لا يصطفون بالفعل مع الاتحاد الأوروبي بشأن قضايا بالغة الأهمية مثل الحرب في أوكرانيا. وبدلا من التركيز على التشابه الواضح في التفكير، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يلاحق أنواعا مختلفة من العلاقات لمصلحة التنويع.
رابعا، على الرغم من أن أوجه التآزر والمقايضات المرتبطة بالاستقلال الاستراتيجي مذكورة بإيجاز، إلا أنها تستحق دراسة أوثق. ويتعين على الاتحاد الأوروبي أن يضمن وجود القدر الكافي من التأييد من جانب المواطنين للتغييرات المؤلمة والمطلوبة حتما.
أخيرا، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يفكر في الكيفية التي يمكنه بها تحقيق الأمن الاقتصادي بشكل أكثر استباقية من خلال تعزيز الأداء الاقتصادي. وهذا يعني استكشاف كيفية استخدام الموارد المشتركة لدعم الاستثمارات في التحولات الكبرى ـ من إزالة الكربون إلى الرقمنة ـ وفي إدارة التغيرات الديموغرافية والتهديدات الأمنية الجديدة.
وبشكل عام، يوفر برنامج الاتحاد الأوروبي المرن 2030 رؤية دقيقة ومتوازنة لكيفية تعزيز الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا. فهو يتجنب مأزق النظر إلى عملية إعادة التصنيع في الاتحاد الأوروبي بوصفها الحل السحري، ويقدم تدابير أكثر استهدافا مقارنة بالأوراق الاستراتيجية السابقة للاتحاد الأوروبي. فهو يعترف بعدم وجود حل "مقاس واحد يناسب الجميع" ـ لأن نقاط الضعف المختلفة تتطلب استجابات مختلفة ـ ويؤكد بشكل صحيح على الدور الذي تلعبه الدائرية في زيادة مرونة الاتحاد الأوروبي وقدرته على الصمود. والآن أصبح لدى صناع السياسات في الاتحاد الأوروبي مجموعة من المقترحات الجريئة والمثيرة للاهتمام لتشجيع المواطنين والشركات على تحمل قدر أكبر من المسؤولية في استخدام الموارد.
لقد ركزت الرئاسة الإسبانية لمجلس الاتحاد الأوروبي على أسس الاستقلال الاستراتيجي المفتوح، وقدمت مخططا أوليا لترجمة المفهوم إلى سياسات ملموسة. ومع مرونة الاتحاد الأوروبي 2030، يحظى صناع السياسات وعامة الناس على حد سواء بالفرصة للتعامل مع هذه القضية الحاسمة في الفترة التي تسبق انتخابات البرلمان الأوروبي في العام المقبل.