السياسة تعمق جراح الاقتصاد في بلاد التانجو
نهاية الأسبوع الجاري، وتحديدا يوم 10 ديسمبر الجاري، يتولى خافيير ميلي اليميني المتطرف رئاسة الأرجنتين، عقب فوزه في جولة الإعادة بنسبة 55,7 في المائة، مقابل 44,3 لسيرجيو ماسا منافسه اليساري عن حزب الاتحاد من أجل الوطن، في نتيجة مفاجئة لكثير من المراقبين، لأنها معاكسة لنتائج الجولة الأولى التي تصدرها ماسا مرشح الحزب الحاكم، بنسبة 36 في المائة، فيما اكتفى ميلي مرشح حزب "تنمية الحرية" بالمركز الثاني، بنسبة 30 في المائة من الأصوات.
يعد فوز خافيير ميلي ذي الـ53 عاما، الوافد الجديد على المشهد السياسي، زلزالا سياسيا في ثاني أكبر بلدان أمريكا اللاتينية، وثاني اقتصاد في القارة بعد البرازيل، فالرجل دخل عالم السياسة قبل أربعة أعوام، بانضمامه عام 2019 إلى الحزب الليبرالي، فعضوية البرلمان بعد عامين، مستثمرا في ذلك قدراته الاستعراضية والخطابية في وسائل الإعلام المحلية، وعلى منصات التواصل الاجتماعي، حيث دأب على الحضور والاشتباك مع مستجدات الأوضاع في البلد بصفته خبيرا اقتصاديا.
الرؤساء المغمورون حمى عالمية أصابت أكثر من بلد، في الأعوام الأخيرة، قبل أن يحين دور الأرجنتين التي تداول على حكمها قادة يساريون لأكثر من 15 عاما. صحيح، لكن المتابعين لأحوال البلد يتوقعون انتخاب سياسي محنك بخبرة ودربة لعلها تفيد في إنقاذ دولة تتقاذفها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فالبلاد على عتبة الإفلاس، باحتلال المركز الأول في قائمة المقترضين من صندوق النقد الدولي بمبلغ 44 مليار دولار، وتضخم مزمن وصل إلى 143 في المائة، ومعدل فقر تعدى 40 في المائة في صفوف ساكنة تقدر بنحو 45 مليون نسمة، وعملة فقدت 90 في المائة من قيمتها في غضون أربعة أعوام.
اختبار الراديكالية في السلطة
إسناد منصب الرئاسة إلى نجم الشاشة في الأرجنتين بمنزلة رد فعل على كل مكونات المشهد السياسي التي عجزت عن انتشال البلاد من دوامة الأزمات والمشكلات منذ عودتها إلى الديمقراطية عام 1983. فكان التصويت لمصلحة "الرأسمالي الفوضوي"، كما يصف نفسه، بأكبر فارق أصوات بلغ ثلاثة ملايين صوت، بعد انحصار البدائل أمام الناخبين ممن عدوه "أهون الشرين"، عند مقارنته بسيرجيو ماسا، مرشح اليسار الذي يشغل منصب وزير الاقتصاد، وأحد المسؤولين الكبار، إلى جانب ألبيرتو فرنانديز، الرئيس المنتهية ولايته، عما تتخبط فيه البلاد من معضلات ومشكلات.
أطلق الرئيس المفوه لسانه خلال أيام الحملة الانتخابية، فوعد بتغييرات جذرية تعالج الواقع المأساوي للأرجنتين، وبشر بعودة البلد إلى المكان الذي ما كان ينبغي أن يفقده أبدا. ونبه إلى خطورة الوضع، ما يستدعى الاستعجالية في التدخل، قبل فوات الأوان، حين قال "إذا لم نتحرك بسرعة إلى الأمام مع التغييرات الهيكلية التي تحتاج إليها الأرجنتين، فسنتجه نحو أسوأ أزمة في التاريخ، لكننا اليوم نتبنى مرة أخرى أفكار الحرية لنصبح قوة عالمية".
اعتبر الرجل في خطاب النصر فوزه بمنزلة "بداية نهاية الانحطاط"، وانطلاق "إعادة إعمار الأرجنتين"، مضيفا أن "النموذج الطبقي الفقير انتهى، واليوم نتبنى نموذج الحرية كي نصبح مجددا قوة عالمية. اليوم تنتهي طريقة مورست بها السياسة، وتبدأ طريقة أخرى". بذلك يؤكد ميلي عزمه تطبيق ما كان يتحدث عنه، أي "العلاج بالصدمة" لمواجهة المشكلات الاقتصادية واستعادة حسابات الدولة لتوازنها، "فلا يوجد مجال للتدرج ولا مجال للفتور أو لأنصاف الحلول".
في تصنيف ميلي مع اليمين التقليدي أو حتى اليمين المتطرف ظلم له، فآراؤه تحررية أناركية أكثر منها يمينية محافظة، خاصة في هجماته الراديكالية على الدولة، واصفا إياها بـ"المنظمة الإجرامية التي تجمع الضرائب تحت تهديد السلاح". ما جعله يدعم، وبقوة كبيرة، فكرة تقليص أدوار الحكومة في حياة الناس، متعهدا بإلغاء 11 وزارة ومؤسسة حكومية، بما في ذلك البنك المركزي، والاستعاضة عن ذلك بدولرة الاقتصاد. وكان المنشار ملازما للرئيس الجديد في معظم التجمعات السياسية، أيام الحملة الانتخابية، دلالة على عزمه تقليص حجم الدولة في البلد.
يبقى ما سبق تقديرات سياسية مفتوحة للنقاش والتداول، عكس مواقف أخرى غريبة من قبيل تأييد المتاجرة في الأعضاء البشرية، التي تتعارض مع مناهضته الإجهاض، إذ سبق له أن دافع عن الأمر بقوله "جسدي ملكي، لماذا لا أستطيع التحكم في جسدي؟ هناك كثير من الأشخاص في الأرجنتين ينتظرون أعضاء المتبرعين، لذلك يجب البحث عن آليات السوق لحل هذه المشكلة". علاوة على دعواته المتكررة إلى تخفيف القيود المفروضة على الأسلحة، فهو من أنصار حمل السلاح بحرية، في بلد يسجل ارتفاعا ملحوظا في الجرائم.
حسابات الواقع غير مزايدات الافتراضي
فهم ما قد يعده كثيرون مفارقات الرئيس خافيير ميلي يستدعي وضعها في سياق "الحرب الثقافية" التي يرى الرجل نفسه منخرطا فيها، فهو محارب ثقافي يرمي إلى تحريك المجتمع الأرجنتيني، فقد كان شعار حملته للانتخابات البرلمانية عام 2021 "لم آت لأقود الخراف، بل لأوقظ الأسود"، ضد ما يصفه بـ"الهجوم اليساري الماركسي" على كل مناحي الحياة في البلاد، فميلي غير مقنع بوجود تغير مناخي أو احتباس حراري.. وما إلى ذلك من المؤامرات الثقافية الماركسية العالمية.
يجعل ذلك علاقات الأرجنتين مع شركاء حقيقيين كالبرازيل والصين في مهب الريح، لكون أنظمة الحكم فيها شيوعية. فلولا دا سيلفا رئيس البرازيل، أكبر الشركاء التجاريين للأرجنتين، في نظر ميلي "شيوعي فاسد"، أحكام لا محالة ستنعكس سلبا على التكتل التجاري "ميركوسور" الذي يضم إلى جانب الأرجنتين كلا من البرازيل والأوروجواي والباراجواي، حيث تلعب الاعتبارات الشخصية دورا محوريا في مثل هذه التجمعات الإقليمية الهشة.
المصير ذاته ينتظر مستقبل العلاقات مع الصين، أكبر المستثمرين وثاني الشركاء التجاريين للبلد، برقم مبادلات بلغ 55 مليار دولار العام الماضي. خاصة أن الرئيس تعهد، خلال حملته الانتخابية، بوقف التعامل مع بكين، معلنا أنه "لا يعقد صفقات مع الشيوعيين". من شأن ذلك التأثير في الدعوة إلى الانضمام لتجمع بريكس، خلال القمة الأخيرة في شهر أغسطس الماضي في جنوب إفريقيا، إذ سبق لمسؤول ضمن فريق الرئيس أن شكك في جدوى العضوية في التجمع، "بريكس ليس كتلة تجارية. حتى الآن ليس من الواضح لماذا نريد الحصول على عضوية في هذه المجموعة".
من شأن المناورة لإعادة صياغة العلاقات الدولية للأرجنتين أن تزج بالبلد في أزمات دبلوماسية جديدة، لكن وقعها سيبقى أخف، قياسا بما يتوقع أن يهز البلاد متى أقدم الرئيس على تنفيذ بعض من تعهداته، أيام الصراع الانتخابي. فقرار اعتماد الدولار مثلا، سيرا على نهج الإكوادور والسلفادور، يعني وضع السياسة النقدية في واشنطن بدلا من بوينس آيريس، وذلك ما عدته صحيفة "الجارديان"، "طريقا باتجاه واحد، ومقامرة سياسية من دون مخرج، قد تدفع الأرجنتين إلى طريق مسدود ينهار معه الاقتصاد".
الإصرار على الوفاء بالوعود يحتم على الرئيس تحصيل أغلبية تدعمه داخل البرلمان، فحزبه بالكاد يتوفر على 38 مقعدا من أصل 350 في مجلس النواب، وثمانية مقاعد فقط من أصل 72 في مجلس الشيوخ. ما يفرض الجلوس إلى الطاولة للتفاوض مع من نعتهم، في وقت سابق، بـ"حثالة البشر"، قصد حشد الدعم لآرائه الغريبة ومواقفه العجيبة. وعلى فرض تحقق ذلك، فإنه يعني فتح الباب على المجهول، ما ينذر بتفاقم الاحتجاجات الشعبية والإضرابات الوطنية في بلد تحظى فيه النقابات بوزن كبير داخل المجتمع.
يدرك خافيير ميلي قبل غيره ما ينتظره ابتداء من الأحد المقبل، فمنسوب اليأس وانسداد الأفق بين مواطني بلاد التانجو دفعهم إلى اختياره، كما أكد ذلك الكاتب خوان لوبس جونزاليس، على لسان أحدهم "جميع رؤسائنا السابقين لم يكونوا مجانين، وانظروا ما الفائدة التي حققها لنا ذلك، بالتأكيد يجب أن نمنح ميلي فرصة". فالسؤال، بحسب الرجل، هو "ماذا سيحدث في بلد غير مستقر بالفعل مثل الأرجنتين، إذا وضعنا في السلطة شخصا مقتنعا بأنه يستطيع التحدث عن الاقتصاد مع كلابه".