بالأرقام .. في وداع عام باهظ التكلفة
على مقعد يستريح ألبرت قليلا بعد يوم طويل تمكن فيه من تزيين بيته في مقاطعة لي مارايس الفرنسية استعدادا لعام 2023 الذي سيبدأ بعد ساعات، وبينما يتصفح بعض المواقع الإخبارية تواجهه تنبؤات المنجم الفرنسي الشهير نوستراداموس معلنة أن المقبل أصعب، فالتضخم مستمر وارتفاع الأسعار لن يرحم أحدا، أما الطبيعة فجفاف شديد وفيضانات تغرق البيوت ومناخ ستتفاقم أزمته، يلقي بهاتفه المحمول بعيدا بعد تلك الجرعة السلبية، رغم ذلك، فحاله أفضل بكثير من زميله البريطاني هاري الذي تفقد صحيفة "ذا صن" في الساعة نفسها، ليقرأ تنبؤات العرافة البلغارية الشهيرة "بابا فانغا"، وهي تؤكد أن 2023 سيشهد استخدام قوة عظمى سلاحا بيولوجيا يقتل مئات الآلاف من البشر والحيوانات والنباتات، ولم يكن حال باقي المواطنين في جميع الدول أقل من ذلك.
بجانب تنبؤات العرافين الذين "كذبوا ولو صدقوا"، فالتصريحات العملية التي خرجت من مسؤولين في نهاية 2022 لم تكن تبشر بكثير من الخير، فكريستالينا جورجييفا رئيسة صندوق النقد الدولي مثلا أكدت أن النمو العالمي سيزداد بطئا، فيما أعلن البنك الدولي أن النزوح واللاجئين في ازدياد، وهكذا أجبر عام 2023 الجميع على مواجهة العالم بالحقائق الصعبة غير القابلة للتجميل.
في النهاية لم يتأخر عام 2023 في إثبات أنه عام باهظ التكلفة، فمع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية المندلعة منذ فبراير 2022 بما ترتب عليها من آثار سلبية عالمية، كان زلزال تركيا وسورية هو أول أحداث 2023 الكبرى، إذا وقع في فبراير
وبلغت قوته 7.8 درجة على مقياس ريختر ليعد الأقوى في تاريخ البلدين، أما فاتورته بعد ثلاثة أشهر من حدوثه بحسب الأرقام التركية والسورية فوصلت إلى 50 ألف ضحية وتشريد 1.5 مليون شخص، وتكلفة إعمار للمناطق المنكوبة تخطت 100 مليار دولار.
وإضافة إلى زلازل أخرى لم يخلوا منها العالم في دول مثل الإكوادور وأفغانستان، كان زلزال المغرب الذي وقع في سبتمبر هو الأشد عنفا بعد زلزال تركيا وسورية، إذ بلغت قوته 6.8 على مقياس ريختر وتمركز في إقليم الحوز في مراكش مخلفا نحو ثلاثة آلاف ضحية و2.8 مليون متضرر، أما آثاره بحسب الأرقام الرسمية المغربية فتنوعت بين تدمير خمسة مواقع أثرية وعشرات الآلاف من المنازل، أما فاتورته فكلفت 8 في المائة من الناتج المحلي للمغرب البالغ 130 مليار دولار.
وكان للفيضانات نصيب كبير خلال 2023، بل وفي شهر واحد وهو سبتمبر الماضي تعرضت عشر دول بداية من البرازيل إلى أمريكا إلى فيضانات متنوعة القوة مخلفة وراءها مئات الضحايا وفاتورة بلغت ملايين الدولارات، لكن في ليبيا وتحديدا مدينة درنة التي ضربها الفيضان في الشهر نفسه تفاقمت الفاتورة إلى حد لا يمكن تخيله، إذ راح أكثر من 11 ألف شخص ضحية للفيضان الذي بلغت فاتورته سبعة مليارات دولارات.
وإذا كانت تلك الفيضانات وجها للتغيرات المناخية كما أرجع العلماء، فعلى الوجه الآخر كان الجفاف الذي اجتاح معظم دول أوروبا وأمريكا اللاتينية خلال أشهر الصيف، وراحت كل دولة منهم تحسب خسائرها، فإيطاليا خسرت ستة مليارات يورو نتيجة انخفاض هطول الأمطار بنسبة 40 في المائة، ما أثر سلبا في 300 ألف شركة لصناعة المواد الغذائية، أما إسبانيا التي طالتها الأزمة نفسها، ففقدت 17 في المائة من محصولها خلال هذا العام فقط وسط تقارير تشير إلى أن الخسائر المتوقعة حتى 2050 يمكن أن تصل إلى 375 مليار يورو، ولم تكن الأرجنتين أحسن حالا هي الأخرى بعد أن أدى الجفاف إلى تدمير محصول القمح الاستراتيجي، ما تسبب في خسائر بلغت 900 مليون دولار في البلد المأزوم اقتصاديا.
بالطبع القائمة طويلة وإن كانت تلك أبرزها، وبحسب تقديرات شركة "سويس ري" للتأمين، فإن الخسائر الناجمة عن الكوارث الطبيعية وصلت في أول ستة أشهر فقط من 2023 ما يقرب من 120 مليار دولار، وما زال النصف الثاني تحت الحصر ما يجعل العام الجاري ضمن الأكثر تكلفة خلال العقد الماضي.
هل توقفت الفاتورة عند هذا الحد، الإجابة لا، فبجانب الكوارث الطبيعية كانت الكوارث البشرية الناتجة عن الحروب والصراعات موجودة لتزيد الفاتورة تكلفة والعالم فقرا وتشريدا، وإذا كان عام 2023 بدأ وفي طياته حرب ممتدة من العام الماضي وهي الحرب الروسية الأوكرانية التي وصلت تكلفتها خلال 2022 بحسب دراسة للمعهد الاقتصادي الألماني إلى 1.2 تريليون دولار، فإن العام الجاري لم يستطع وقف نزيف الخسائر التي بلغت نحو تريليون دولار آخر لتصنف تلك الحرب ضمن الأكثر تكلفة في التاريخ.
ومن أوروبا إلى السودان لم تهدأ البنادق، ففي منتصف أبريل الماضي نشب الصراع في السودان، وبعد مرور ستة أشهر فقط كان البنك الدولي يعلن انكماش اقتصاد السودان بنسبة 12 في المائة خلال 2023، وتوقفت 400 منشأة صناعية عن عملها، أما البنية التحتية التي تم تدميرها فتحتاج إلى 60 مليار دولار لإعادتها كما كانت، تلك الأرقام التي توقفت عند حدود أكتوبر الماضي فقط تشير التوقعات إلى أنها تضاعفت خلال الشهرين الماضيين خاصة في ظل استمرار الصراع وإن بوتيرة أقل بحسب إبراهيم البدوي وزير المالية السوداني الأسبق.
تلك الفاتورة الباهظة هي الأرقام المباشرة فقط، لأن هناك حسب مفوضية اللاجئين 114 مليون إنسان فقد بيته إما بسبب كوارث طبيعية وإما نتيجة الحروب، فضلا عن تباطؤ النمو العالمي الذي تخطى 3 في المائة، ورغم مساهمات الدول الكبرى لإدراك ما يمكن إدراكه، وفي مقدمتهم السعودية التي بلغ حجم إسهامها خلال العقود السبعة الماضية 127 مليار دولار ما بين مساعدات إنسانية ومشاريع تنموية، لكن ذلك لم يكن كافيا أمام إعصار الكوارث المتنوع، والسؤال الآن، ونحن في ختام عام وبداية آخر يبدو أنه لن يختلف كثيرا، فالميادين مشتعلة والكوارث الطبيعية على قائمة أولويات كل دولة، فهل ستصر الصحف والقنوات على استضافة عرافين يتنبأون بأحداث العام الجديد، والأهم، هل ستحظى تلك الفقرات بنسب مشاهدة كالماضي أم سيفضل المواطن في أي مكان في العالم أن يغلق التلفاز والهاتف، ليحظى بعدة ساعات يستطيع فيها الاحتفال مع أسرته دون التفكير فيما هو مقبل؟