أمريكا .. الهجرة ورقة في معركة سياسية داخلية
أضحت الهجرة معضلة تؤرق الإدارة الأمريكية الحالية، مع إيقاف العمل بالبند 42 الذي يسمح للسلطات الأمريكية بصد الأشخاص الذين يلتمسون الحماية وإبعادهم عن الحدود، بدعوى فرض الطوارئ الصحية لمنع انتشار الأمراض في البلاد. تعود أصول هذا القانون إلى عام 1944، وعرف حينها باسم "قانون الصحة العامة"، واستخدم منذ استئناف العمل به من قبل إدارة الرئيس دونالد ترمب، في مارس 2020، للحد من تداعيات فيروس كورونا، أزيد من 2.8 مليون مرة خلال ثلاثة أعوام.
إسقاط هذه المادة الاستثنائية، وضع حدا لتطبيق سياسة ترحيل فورية ضد المهاجرين غير النظاميين، إذ يصبح بمقدور هؤلاء تسليم أنفسهم طوعا لسلطات الهجرة الأمريكية فور عبورهم الحدود بأمان، قصد الدخول في عملية بيروقراطية طويلة، تتيح لهم حق البقاء على الأراضي الأمريكي، في انتظار البث في طلبات اللجوء التي تستغرق ما بين عامين وخمسة أعوام. وفرض بالموازاة مع ذلك على ولايات الحدود الجنوبية مثل تكساس وأريزونا ونيومكسيكو وكاليفورنيا... الاستعداد لمواجهة تدفق مئات وربما آلاف المهاجريين يوميا.
سبق للرئيس جو بايدن أن اعترف بأن انتهاء العمل بهذا البند الذي مكن إدارته من ترحيل زهاء ثلاثة ملايين مهاجر خلال ولايته، سيجعل الوضع فوضويا.
من جهتها، كشفت وزارة الأمن الداخلي عن توزيع 363 مليون دولار، ضمن خطة للكونجرس بقيمة 800 دولار للغذاء والمأوى الطارئ، للمساعدة على مواجهة تداعيات تسونامي المهاجرين على الحدود الجنوبية للبلاد.
بمعية ذلك، حشدت أكثر من 24 ألف عنصر من قوات الأمن، وما يفوق أربعة آلاف جندي بغرض إيقاف زحف المهاجرين نحو التراب الأمريكي.
يتوقع المراقبون أن تشكل الهجرة ملفا ساخنا في أجندة المرشحين للرئاسيات العام المقبل، فالأرقام تفيد بأن عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين أبلغت عنهم قوات حرس الحدود الأمريكي، برسم عام 2022، وصل رقما قياسيا بعد تجاوز 2.2 مليون مهاجر، في سابقة تاريخية لم تتحقق منذ تسعينيات القرن الماضي. وبلغ معدل الزيادة في المهاجرين غير النظاميين، منذ تولي الرئيس جو بايدن الرئاسة 450 في المائة، ما خلف قلقا متزايدا في أوساط المجتمع الأمريكي بشأن الهجرة، فنحو 42 في المائة من الأمريكيين يرغبون في اتخاذ إجراءات ضد الهجرة، في أعلى نسبة منذ عام 2014.
ويزيد إمعان أطراف في استخدام ورقة الهجرة لكسب الأصوات وتوجيه الرأي العام الأمريكي الموضوع حساسية، فقد سبق للمحكمة العليا أن قضت برفض تعليق العمل بالمادة 42 بأغلبية 5 أصوات مقابل 4، استجابة لالتماس عاجل من بعض الولايات التي يقودها جمهوريون طالبوا ببقاء السريان المؤقت للمادة. فضلا عن إقدام ولايات يقودها جمهوريون مثل تكساس... على تعميق معاناة آلاف المغامرين في رحلات طويلة ومحفوفة بالمخاطر لأنهم يثقون في أن الولايات المتحدة كبيرة، بإرسال هؤلاء المهاجرين إلى ولايات يحكمها ديمقراطيون، احتجاجا على سياسات الهجرة التي ينتهجها الرئيس بايدن.
يبقى دخول التراب الأمريكي هدفا وإن تعددت الأساليب، فإلى جانب الهجرة غير النظامية تشهد الولايات المتحدة تزايدا في أرقام المقبلين على سياحة الولادة، ما جعل الرئيس السابق دونالد ترمب؛ أحد المتنافسين على كسب ترشيح الحزب الجمهوري، يتعهد بإلغاء الجنسية بالميلاد التي تمنح لكل من يولد على الأراضي الأمريكية. فالأمر أضحى تجارة رائجة، ترعاه شركات سياحة متخصصة، تنهض بتتبع كافة إجراءات الولادة والتطبيب واستصدار الجواز للمواليد الجدد مقابل مبالغ مالية مهمة.
الظاهرة في ارتفاع، رغم غياب الأرقام بشأنها، لتباين تكلفة الولادة من ولادة إلى أخرى، وإن كانت ولايات بعينها (فلوريدا وكاليفورنيا ونيويورك وشيكاغو...) الأكثر استقبالا لحالات ولادة الأجانب في البلد. وتحدث مركز السيطرة على الأمراض في إحصاء، قديم نسبيا، عن تسجيل 10042 ولادة عام 2019. فضلا عن الانتشار المطرد لهذا النوع من السياحة في بلدان مثل المكسيك والصين وكوريا الجنوبية وتايوان وتركيا التي سجلت منذ عام 2003 ولادة 12 ألف طفل من أباء أتراك في الولايات المتحدة.
كل ذلك يرفع في الداخل الأمريكي الأصوات المطالبة بتشديد القوانين في موضوع الهجرة، في بلد شكلت موجات الهجرة المتوالية، بدءا من المستوطنات الأوروبية في الساحل الشرقي بدايات القرن 17، فسياسة العبودية بجلب الأفارقة للعمل عبيدا في ولايات معينة، وما أعقب ذلك من هجرات جماعية أحيانا من كافة أصقاع العالم، القوة الضاربة التي صنعت بها الولايات المتحدة الأمريكية الحلم الأمريكي، حتى قيل بأن الولايات المتحدة وكندا أرض لشعب من المهاجرين بأكمله.
أكثر من ذلك، شكلت الهجرة وسيلة لحماية المشهد الديموغرافي الأمريكي من الشيخوخة التي ضربت بقوة اقتصادات الدول الصناعية الكبرى، فآخر تعداد سكاني في البلد عام 2020 أظهر أن الولايات المتحدة لا تزال في بداية رحلتها نحو التغير الديموغرافي مقارنة بـدول أخرى مثل: اليابان واليونان وإيطاليا... فنسبة الأطفال دون 18 عاما تكاد تكون شبه ثابتة في آخر إحصاءين بالبلد؛ فقد مثلوا 73.1 مليون في عام 2020، بعدما كانوا في إحصاء عام 2010 يشكلون 74.2 مليون طفل.
كما أن المهاجرين يسهمون في إبطاء شيخوخة المجتمع الأمريكي نسبيا، ما يعني تأخير مشكلات الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي وما يتصل بذلك من نقاشات لا تنتهي على أجندة حكومات أوروبية عديدة، فأكثر من نصف الولادات في البلد من المهاجرين. فضلا عن كون أكثر الولايات استقبالا للمهاجرين؛ تكساس وكاليفورنيا، تسجلان تباعا 35.1 عاما و37.1 عاما كمتوسط أعمار لدى سكانها، وهذا أقل من المعدل الوطني في البلد المحدد في 38.8 عاما.
توشك الهجرة على التحول إلى مفارقة بالنسبة للإدارة الأمريكية، فالبلد بشكل عام سيكون عاجزا على البقاء في المنافسة على ريادة العالم دون الحفاظ على مستويات معينة من المهاجرين سنويا، وفي المقابل من شأن طوفان المهاجرين المتدفق من دول أمريكا الجنوبية (المكسيك وفنزويلا ونيكارجوا وهايتي وكوبا...) أن يزيد الوضع المأزوم أصلا في مجال الهجرة بالبلاد. فضلا عن كونه مدخلا لإعادة تشكيل الولايات المتحدة، وفق ما أكد ذلك الأكاديمي الأمريكي وليام فراي في كتابه "انفجار التنوع: كيف تعيد التركيبة السكانية العنصرية الجديدة تشكيل أمريكا؟".