رحلة دولار في دواليب الاقتصاد العالمي

رحلة دولار في دواليب الاقتصاد العالمي
في فصول الكتاب نستوعب لماذا يحتل الدولار مقعدا خلفيا مؤقتا عند دخوله منطقة اليورو.
رحلة دولار في دواليب الاقتصاد العالمي
دارشيني ديفد

راج في الأوساط الاقتصادية، مطلع العام الجاري، أن الدولار -سيد العملات- فقد 8 في المائة من حصته في الاحتياطيات العالمية، لتصبح 58 في المائة بعد أن كانت تمثل 73 في المائة بداية الألفية الثالثة.
خبر عده كثيرون بداية أفول نجم العملة الخضراء، ودليلا على اهتزاز عرش الدولار عالميا. لكن الحقيقة خلاف ذلك تماما، فهذه القراءة المتسرعة غير دقيقة في أكثر من ناحية. هذا ما حاولت دارشيني ديفيد الكاتبة وعالمة الاقتصاد البريطانية شرحه بأسلوب رائع؛ بسيط ومفصل، في كتابها "سطوة الدولار رحلة مذهلة لدولار أمريكي لفهم الاقتصاد العالمي".
يقوم الكتاب على فكرة تتبع دولار أمريكي واحد في رحلته حول العالم، لفهم العوامل التي جعلت من الدولار أقوى عملة في العالم، وذلك من خلال الإجابة عن عدد من الأسئلة من قبيل: كيف يؤثر انتقال الدولار يوميا من مكان إلى آخر حول العالم في حياتنا؟ وكيف استطاع الدولار تجاوز أدوار عملة على غرار بقية العملات ليصبح واجهة القوة والمصالح الأمريكية؟ وما السر وراء ظهور دبلوماسية الدولار؛ أي استخدام الاستثمارات أو القروض الأمريكية للتأثير في السياسة في الخارج؟ وهل التجارة الحرة مفيدة حقا؟ ولماذا سطوة الدولار قائمة رغم أن الصين أكبر الدول المصنعة والولايات المتحدة أكبر مستهلك لمنتجاتها؟
تقدم دارشيني ديفيد في كتابها رؤية مبسطة للكيفية التي تشكل بها القوى الاقتصادية العالم الذي نعيش فيه، وتشرح كيف أصبحت كلمة "اقتصاد" اختصارا لنظام محير فقد كثيرون الثقة فيه، فالرغبة في إخبار الناس عن عالم الاقتصاد الغريب، وآثاره علينا جميعا، كان السبب وراء تركها وظيفة في قاعة التداول بلندن للعمل بغرفة الأخبار. إنه السعي وراء أسرار الاقتصاد أو "العلم الكئيب"، بحسب تعبيرها، حيث تقول: "ضع اثنين من الاقتصاديين في غرفة وينتهي بك الأمر بثلاثة آراء".
يساعدك الكتاب على فهم كيف أضحى الدولار، الذي اتخذ عملة رسمية في الولايات المتحدة وبشكل كامل في عام 1792، أحد أكثر مخازن القيمة ثقة في العالم؛ فوجه جورج واشنطن هو الأكثر استنساخا على هذا الكوكب، فهو يطبع على 17 مليون ورقة من فئة الدولار يوميا، رغم أن الاقتصاد الأمريكي يشكل أقل من 1 /4 الاقتصاد العالمي، يبقى الدولار حاضرا في 87 في المائة من جميع المعاملات التجارية التي تتم بالعملات الأجنبية، لذا ليس مستغربا وجود نصف أوراق الدولارات المتداولة في العالم خارج الولايات المتحدة الأمريكية.
ويفسر دواعي الامتعاض الفرنسي من الوضع الخاص للدولار، منذ أيام الجنرال شارل ديجول الذي هاجم عام 1965، نظام بريتون وودز، بقوله: "حقيقة أن دولا كثيرة تقبل الدولار كمكافئ للذهب، مكنت الولايات المتحدة من اقتراض الأموال من الدول الأجنبية دون مقابل.. هم في الواقع يدفعون ما يدينون به لهذه البلدان، لكنهم يدفعون بالدولار عملتهم التي يستطيعون طباعتها بالكم الذي يحلو لهم". وتجدد مع الرئيس نيكولا ساركوزي بقوله: "إن أي دولة تحاول العيش بما يفوق إمكاناتها ستضطر إلى تخفيض قيمة عملتها وطباعة مزيد من المال.. لكن الولايات المتحدة لم تضطر أبدا للجوء إلى هذا الخيار المرير، وذلك لأن بقية العالم بحاجة إلى الاستمرار في شراء الدولار من أجل التعامل التجاري".
يصعب على أي دولار أمريكي أن يتجول في العالم دون المرور بالمبنى رقم 32 في وسط شارع تشينج فانج، حيث يقع البنك المركزي الصيني الذي تأسس عام 1949، المتحكم في المصائر الاقتصادية لمليارات الأشخاص حول العالم. فهناك في الصين ينخرط الدولار في لعبة "ممارسة الطقوس في معبد الأسعار المنخفضة" التي صيرت الصين ورشة عمل العالم، بفضل العولمة التي يدفع بعض العمال الصينيون ثمنا باهظا لها في حين أن غيرهم قادر على جني ثمارها، حتى ينتهي به المطاف في هرم القطاع المصرفي بدخول خزائن بنك الشعب الصيني.
تريد الصين تحقيق الصدارة، لكن بشروطها الخاصة؛ فالثقافة الكونفوشيوسية وإرث الشيوعية لا يروجان لمفهوم الابتكار وثقافة ريادة الأعمال. لكن، من أجل ذلك، تحتاج أن تظل الولايات المتحدة فاعلا رئيسا على مسرح الأحداث في العالم، ولا تتردد في استخدام الدولارات وتحولها إلى سلاح ضد صانعها؛ أي الولايات المتحدة. إنها حرب عملات، السلاح الرئيس فيها هو الدولار في قلب مكيدة معقدة. أكثر من ذلك، يعزز البنك المركزي الصيني ريادته بقراره إعادة الدولارات إلى الولايات المتحدة، عن طريق عملية شراء سندات الخزانة الأمريكية التي تصدرها أمريكا، في مظهر من مظاهر استعراض القوة والنفوذ.
بدل العودة إلى واشنطن قد يواصل دولارنا رحلته إلى روسيا أو الهند أو العراق أو النيجر لتمويل خط سكة حديدية موجود على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، يبدو بلا فوائد واضحة على الشعب الصيني، وإن كانت الحقيقية خلاف ذلك، ما جعل الكاتبة تضع لفصل الثالث عنوان "العثور على الحب في دلتا النيجر"، فكل دولار تحصل عليه أبوجا، وإن بدا لكثيرين مبلغا تافها، يبقى مهما في بلد يعيش فيه 6 من كل 10 أشخاص على أقل من دولار في اليوم.
بتتبع رحلة الدولار نفهم دواعي فشل الهند التي كانت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتبقى حاليا مصدرا لطبق واحد من كل خمسة أطباق أرز تتناول في العالم، في إتقان لعبة اللحاق بالركب على غرار الصين، لكونها اتبعت مسارات غير تقليدية ما أفضى إلى نتائج غير تقليدية. فالأرقام تكشف أن نيودلهي أقل ميلا إلى استعراض قوتها المالية، لأنها لا تزال تظهر قليلا من الاهتمام ببسط سطوتها إلى الخارج؛ إذ مقابل كل دولار تستثمره تنفق الصين 36 دولارا.
في فصول الكتاب نستوعب لماذا يحتل الدولار مقعدا خلفيا مؤقتا عند دخوله منطقة اليورو، حيث تتشكل، بحسب الكاتبة، قصة اقتصادية رائعة في هذا العصر. كما نفهم السبب وراء ندرة فرص شاب بعمر 35 عاما في المملكة المتحدة في امتلاك منزل بمقارنة بفرص شخص آخر ولد عام 1900. بصيغة أخرى، يساعدنا الكتاب على تقديم تفسير مقنع لقدرتنا المادية على شراء ملابس أكثر بكثير مما استطاع أجدادنا شراءه في أي وقت مضى، وعدم قدرتنا على الأرجح في امتلاك منزل للاحتفاظ بهذه الملابس.
يعد الدولار التعبير النهائي عن التوافق السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية، فالدولار الواسع الانتشار يساعد أمريكا على بسط سطوة قانونها خارج حدودها. فرغم أن الذاهب إلى التسوق خارج الولايات المتحدة، لا ينفق دولارات، متى نظرنا إلى الدولار باعتباره عملة واحدة من بين عديد من العملات، إلا أنه يسهم من حيث لا يدري في رحلة الدولار التي تحرك عجلات التجارة وتدعم موازين القوى عبر العالم.

الأكثر قراءة