الأجندات الأنانية .. رفض الحمائية على الطريقة الأمريكية
يشكل تفتت الاقتصاد العالمي تهديدا وجوديا لمنظمة التجارة العالمية والنظام المتعدد الأطراف، الذي غذى نمو الاقتصاد العالمي على مدى نصف القرن الماضي. ومن عجيب المفارقات هنا أن التهديد يأتي من الولايات المتحدة، التي كانت تاريخيا الدولة الرائدة على مستوى العالم في نصرتها لتحرير التجارة. وفقا لأرفيند باناجاريا نائب رئيس سابق للمؤسسة الوطنية لتحويل الهند وكبير خبراء الاقتصاد الأسبق في بنك التنمية الآسيوي، وأستاذ الاقتصاد في كلية الشؤون الدولية والعامة في جامعة كولومبيا.
على مدار ما يقرب من 50 عاما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، قادت الولايات المتحدة الجهود الرامية إلى تحرير التجارة العالمية من خلال الاتفاقية العامة بشأن التعريفات الجمركية والتجارة للتوقيع على معاهدة متعددة الأطراف لإنشاء منظمة التجارة العالمية، التي ضمت اتفاقية الجات مع توسيع نطاقها لتغطية تجارة الخدمات والمشاريع الفكرية.
ومن عجيب المفارقات هنا أن السياسة الصناعية الحالية التي تنتهجها أمريكا تشكل تهديدا وجوديا للنظام التجاري المتعدد الأطراف الذي بذلت أمريكا قصارى جهدها لبنائه. وفي واشنطن، هناك الآن إجماع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي على أن منظمة التجارة العالمية فشلت في الدفاع عن المصالح الاقتصادية الحيوية لأمريكا وأوجدت عن غير قصد منافسا جيوسياسيا هائلا من خلال السماح للصين بالاستفادة من النظام. وقد دفع هذا الإدراك الإدارات الديمقراطية والجمهورية إلى اتخاذ خطوات هزت أسس المؤسسة التي ساعدت الولايات المتحدة في تأسيسها.
منذ 2016، رفضت الولايات المتحدة الموافقة على قضاة جدد في هيئة تسوية المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية ومنعت إعادة تعيين أولئك الذين انتهت مدة ولايتهم. بحلول ديسمبر 2019، تم تخفيض مجلس تسوية المنازعات إلى عضو واحد، وهو أقل من الحد الأدنى المطلوب للفصل في القضايا وهو ثلاثة. ونتيجة لذلك، لا توجد حاليا آلية فعالة لحل النزاعات التجارية بين أعضاء منظمة التجارة العالمية، ما يزيد بشكل كبير من احتمالية تبني الدول الأعضاء لسياسات تنتهك التزاماتها القانونية.
ومن غير المستغرب أن تكون الولايات المتحدة نفسها منتهكة بشكل متسلسل. في 2018، عندما توقف جهاز تسوية المنازعات عن العمل فعليا، فرض الرئيس دونالد ترمب آنذاك تعريفات جمركية على الغسالات والألواح الشمسية المستوردة. بعد ذلك بوقت قصير، أعلنت إدارة ترمب فرض تعريفات جمركية إضافية على الألمنيوم والصلب ومجموعة واسعة من السلع الصينية.
بدلا من رفع تعريفات ترمب الجمركية، أقام الرئيس الأمريكي جو بايدن حواجز تجارية إضافية من خلال تبني سياسات صناعية تتضمن تريليون دولار من إعانات الإنتاج لأشباه الموصلات والمركبات الكهربائية وطاقة الرياح البحرية. وكان تدخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا، الذي أدى إلى فرض عقوبات اقتصادية غربية ضخمة ضد روسيا، سببا في تعقيد التوقعات غير المؤكدة بالفعل للتجارة العالمية. علاوة على ذلك، تعهد ترمب بفرض تعريفة عالمية بنسبة 10 في المائة على أغلب الواردات إذا عاد إلى البيت الأبيض في 2025.
وحتى الآن لم تنجح هذه التطورات في إبطاء التجارة الدولية بشكل كبير. لقد انتعشت صادرات البضائع العالمية بشكل مثير للإعجاب من جائحة كوفيد - 19، حيث ارتفعت إلى 25 تريليون دولار في 2022 من 22 تريليون دولار في 2021 و19.5 تريليون دولار في 2018. وكان تأثير التعريفات الجمركية الأمريكية والإجراءات الانتقامية التي فرضها شركاء أمريكا التجاريون طفيفا نسبيا. وفي حين عانى مستوردو الصلب والألمنيوم والسلع الصينية، ظلت تجارة البضائع الأمريكية ـ حتى مع الصين ـ قوية. والأمر الأكثر أهمية هو أن اقتصاد الولايات المتحدة واصل نموه السريع، وذلك نظرا لسوقه المحلية الضخمة التي تتسم بقدرة تنافسية عالية.
ولا يمكن قول الشيء نفسه عن معظم الدول النامية. وباستثناء بعض الاستثناءات، مثل كوريا الجنوبية، تايوان، وسنغافورة، فإن العالم النامي لم يتبن الانفتاح التجاري إلا بعد إنشاء منظمة التجارة العالمية. ونتيجة لذلك، فإن الدعم المحلي للسياسات الموجهة نحو الخارج في تلك الدول لا يزال هشا.
وفي ظل هذه الظروف، فإن تحول أمريكا نحو تدابير الحماية يعمل على تقويض التجارة المفتوحة بطريقتين مهمتين. أولا، إنها تغذي عقلية حمائية. وعندما تتبنى الولايات المتحدة، الدولة الرائدة على مستوى العالم في دعم تحرير التجارة، تدابير الحماية، فإنها تشير إلى دول أخرى بأنها قد تستفيد أيضا من مثل هذا النهج ويمكن أن تشجعها على العودة إلى استراتيجيات التنمية التي تركز على التصنيع الذي يحل محل الواردات.
ثانيا، كثيرا ما يواجه الزعماء في الدول النامية ضغوطا سياسية للرد على الرسوم الجمركية الأمريكية التي ينظر إليها على أنها تضر بصادراتهم. فقد انتقمت الهند، على سبيل المثال، من الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب على الصلب والألمنيوم من خلال فرض رسوم جمركية خاصة بها على الواردات الأمريكية. ويبدو أن حقيقة مفادها أن اقتصادا كبيرا مثل الهند يفتقر إلى القوة السوقية اللازمة لإلحاق الضرر بالاقتصاد الأمريكي، أو أن تكاليف مثل هذه التعريفات الانتقامية ستقع في الأغلب على عاتق مواطنيها، يبدو أنها لا تهم كثيرا.
ولأن الأسواق المحلية في الدول النامية أصغر كثيرا من أسواق الولايات المتحدة، فإن سياسات التجارة الحرة تلعب دورا أكبر في دفع نموها الاقتصادي. إن النمو السريع الذي حققته الصين، الهند، بنجلادش، وفيتنام منذ إنشاء منظمة التجارة العالمية يسلط الضوء على فوائد التجارة المفتوحة ـ وكيف أن الاضطرابات الأخيرة التي شهدتها التجارة المتعددة الأطراف يمكن لهذا النظام أن يعرض للخطر الآفاق الاقتصادية لعديد من الدول النامية.
ورغم وجود حلول محتملة لتفتيت التجارة العالمية، فإن الديناميكيات الجيوسياسية والأجندات الأنانية للقوى الكبرى تشكل تحديات كبيرة. ومع ذلك، وفي مواجهة الاقتصاد العالمي المتصدع، فإن الدول التي تتمكن من إبقاء أسواقها مفتوحة وصياغة اتفاقيات التجارة الحرة مع أكبر عدد ممكن من الشركاء تتمتع بفرصة أفضل في الصمود في وجه العاصفة الحالية.